(بَالَه)

آراء 2023/09/16
...

زهير الجبوري

استذكرت ما قدمه زميلي الفنان القدير ثائر هادي جبارة في عملٍ مسرحي بعنوان (باله) قبل مدةٍ قريبةٍ في مدينة الحلة، ولعلَّ هذا العنوانَ يحيلنا إلى الأشياء التي تباع (وأغلبها مستخدمة)، لكن الشيء الملفت للنظر أن العمل المسرحي كان خطابه أبعدَ من كونه عرضًا مسرحيًّا، على الرغم من أنّي تناولته في مقالٍ نقدي، حيث تنطوي فكرة العرض على قراءة الواقع عبر تحولاتٍ غاية الدقة، تحولاتٌ سياسيَّة واجتماعيَّة وفكريَّة، فيها من الأزمات ما يمكن التوقف عندها، ولعلّني لمست ما يمكن الأخذ به بعلاماتٍ تأصيليَّةٍ لثيمةٍ معيّنةٍ لتصبح لوحدها مسألةً غاية الدّقة، بوصفها ذات منحى دلالي لقضيَّة تمسُّ أزمةٍ من أزمات البلد، ولا أدري إنْ شاطرني الرأي أحدٌ حول مسألة التراكم الكبير في مجتمعنا لفترةٍ امتدت لعقودٍ من السنوات، ولم يكن التناحرُ الأيديولوجي في البلد سوى فقدان المواطنة الحقّة، فكلُّ خطابٍ فكريٍّ يظنُّ أنّه صاحب المشروع الوطني الخالص، والضحية أولئك الذين يعملون في وظائفهم أوفي أعمالهم الحرّة، ولا يملكون سوى الانتماء للأرض والوطن، وهم على سجيتهم طيبون مسالمون..
الأثر الذي تركه أصحاب التناحرات السياسيَّة والأيديولوجيَّة عبر عقود، أصبحت الآن مثل حاجةٍ متروكةٍ (باله)، قد يأتي البعض في استخدامها، لكنها لم تعد في بريقها الذي تقلده الناس، فاللون الزيتوني الذي كان رمزًا للزي البعثي الموحد، لم يكن برّاقاً مثلما كان، أو اللون الأحمر وتفاصيله الأخرى، لم يكن كافياً للشيوعيين، لأن يصبح الدعاية المؤثّرة في الشارع العراقي، وغيرها من الأمور الأخرى التي تقع في عاتق الإنسان العراقي، وما يدور حوله من حياةٍ مضطهدةٍ وبنى تحتيَّةٍ شبه منهارة، لذا ستصبح كلُّ (الموضات)، التي رسمت لخطابٍ فكري معين، مجرد حاجياتٍ بسيطةٍ مطروحةٍ في ثمنٍ بسيط..
وللطرافة، وأنا أشاهد ما قدّمه الفنان (جبارة) أنَّ جلّ ما تناثره من ألبسةٍ مستخدمةٍ في العرض، قد سرقت من قبل أحزابٍ حاكمةٍ ومتسلّطة، وهو رمزٌ لقراءة الواقع المعاصر في ظلِّ ما يشهده البلد من محنةٍ يعرفها الجميع، ترى إلى أيّ مدى يمكن التحمل بعد كل ما نشاهده ونعيشه..؟ وكيف سيكتب التاريخ في الأمد البعيد ما حصل وما سيحصل، أجدُ من الضروري الوقوفَ عند محطة التشخيص والبوح، لأننا مهما تقدّم بنا الزمن، لا بدَّ من صراحةٍ حقيقيَّةٍ يقولها البعض، خاصةً أنَّ الإنسان العراقي، والمثقف ـ تحديدا ـ له القدرة على التشخيص والبوح، وصوته سيبقى وثيقةً تاريخيَّةً يستند إليها..
ولـ(الباله) عنوانٌ كبيرٌ لجوهر الأشياء، التي تترك ولم تؤخذ في ما بعد بقيمتها البرّاقة السابقة، وما بقيَّ من تاريخنا المشرق ينطوي في بعض العلوم والمعرفة لأسماءٍ أصبحت الآن عملةً نادرةً تلمع، ويشار إليها بعين التقدير والتقييم الحقيقي، فتاريخ البلد عبر الأزمان مصدرُ إشعاع، وما بقيَّ ولم يؤثر في المجتمع، فهو (باله) وسرعان ما تتلف..