عبدالأمير المجر
اعتقد البعض أنَّ مرحلة ما بعد 2003 ستشهد حواراً عراقياً صريحاً، يضع كل ما جرى تحت مشرط التحليل والقراءة الجديدة والمعمقة للأحداث التي عصفت بالبلاد، لاسيما بعد العام 1958 .. إن لم يكن على مستوى الساسة والمسؤولين سيكون على مستوى الثقافة والإعلام .. ومصدر تفاؤل هؤلاء بإمكانية حصول هذا الحوار، هو أنَّ النظام الديمقراطي القادم يسمح بالحديث عن كل ما كان يوصف بانه من الخطوط الحمر، سواء شخصيات أو أحزاب أو غيرها .. وبذلك سيقف العراقيون على الأسباب التي كانت وراء ماحصل من أحداث دموية وغير ذلك، على أن يجري هذا الحوار النخبوي من خلال قراءة الواقع الدولي والإقليمي وتأثيراته في الميدان المحلي العراقي ... الشيء الذي حصل بعد ذلك، هو أنَّ الذين أمسكوا بالسلطة تنكروا للشعارات التي كانوا يرفعونها وراحوا يبتكرون مدخلات جديدة للأحداث تتناسب مع شعار المرحلة (الديمقراطية) التي فرّغوها من محتواها، ورفضوا أي محاولة جادة لقراءة المراحل السابقة قراءة موضوعية، لنجد أنفسنا فيما بعد في مناخ سياسي مريض وحرية منقوصة، جعلتنا أمام مشكلات جديدة أخذت تتوالد والشعب ظل هو الضحية لها باستمرار.
شهدت كركوك مؤخراً أوضاعاً مضطربة، وقف على أحد طرفيها، أغلب القوى العربية والتركمانية الرافضة لضم كركوك لإقليم كردستان، وعلى الطرف الآخر القوى الكردية وفي مقدمتها الحزب الديمقراطي الكردستاني، والتي تطالب بضم كركوك للإقليم، وتطبيق المادة (140) من الدستور الذي وضع تفصيلات لتطبيقها، يرى أغلب المحللين إن لم نقل كلهم أنَّ إنجازها شبه مستحيل، منوهين بأن الموعد النهائي لتطبيق المادة هو نهاية العام 2007 .. والسبب ليس لوجستياً يتعلق بالسجلات أو ما يؤكد حقيقة واقعها الديموغرافي، وإنما رفض العرب والتركمان المبدئي لضم المحافظة للإقليم، كونهم يرون الحديث عن غالبية سكانية كردية أو وجود حقيقة تاريخية تؤكد كردية المحافظة، محض خيال لا أكثر، وأنَّ كركوك محافظة عراقية تضم خليطاً متعايشاً منذ مئات السنين وستبقى هويتها العامة عراقية ولايمكن فرض هوية فرعية عليها تحت أي مبرر، وان الدستور كتب في ظروف غير اعتيادية، والمادة (140) لم تتبلور من خلال نقاش عراقي شامل يفضي أو يسبق إحالتها إلى التطبيق، وانما فرضت على العراقيين من غير الكرد، لأهداف بعيدة قدّرتها سلطة الاحتلال الأميركي وقتذاك.
مشكلة كركوك وأحداثها الأخيرة تعيد طرح السؤال .. لماذا لم يُعقد مؤتمر وطني شامل للمصارحة والمكاشفة لكي يعرف المواطن العراقي الذي كان ضحية الأحداث لعقود طويلة، من كان يقف وراءها ومن يتحمل المسؤولية داخلياً وخارجياً؟ .. فالقضية الكردية، بوصفها واحدة من أبرز المشكلات، تبنت الترويج لتداعياتها المؤلمة بعض القوى السياسية العربية المعارضة سابقاً، وعرضتها بشكل عاطفي ومجتزأ، لأسباب معروفة، لكنها نفسها ترفض الآن التعامل مع أهداف الأحزاب الكردية المعلنة، وبضمنها ضم كركوك للإقليم والذي كان سبباً في فشل جميع محاولات الأنظمة العراقية السابقة لحل المشكلة، وان عدم مناقشة الأمر مع القادة الكرد قبل إقرار (قانون إدارة الدولة المؤقت) العام 2003 الذي وضع خارطة طريق غير واقعية وعملية لحلها، جعل من كركوك مشكلة مؤجلة، مثلما ان عدم قراءة المشكلة الكردية من مدخلاتها الأولى ومن كان وراء عدم حصول الكرد على دولة خاصة بهم مطلع القرن العشرين، جعل بعضهم، لاسيما الأجيال الجديدة منهم، يعتقدون تحت ضغط إعلام مابعد 2003 وقبله أيضاً وبشقيه الكردي والعربي معاً، أنَّ عرب العراق هم المسؤولون عن ظلم الكرد ومعاناتهم الطويلة والتي هي في الحقيقة معاناة الشعب العراقي بأكمله! وقد أسهم التركيز الإعلامي على تداعيات الأحداث العسكرية والأمنية التي حصلت، لاسيما بعد العام 1961 في خلق مناخ ثقافي غير صحي داخل الإقليم تجاه العرب والتركمان وغيرهم، وهذا ما نلمسه من خلال ردود فعل بعض الشباب الكردي المتحمس.
نحن نعتقد أنَّ المصارحة من خلال مؤتمر وطني شامل، يعيد قراءة ماحصل بعين محايدة، سيكشف الكثير من الحقائق ،وأنَّ الكثيرين ممن يرون انفسهم مضحين من أجل الوطن سيواجهون بحقائق تؤكد أنهم كانوا أصحاب مشاريع طوباوية كانت وراء الكثير من المآسي التي عانى ومازال يعاني من تداعياتها الشعب العراقي كله!