الجامعة والنتاج المعرفي

آراء 2023/09/17
...

  د.جواد الزيدي

  لا يقترن فعل الجامعة في أيِّ مكانٍ في العالم باستقبال مخرجات الدراسة الإعداديَّة وما يعادلها، وتخريجهم من دون أدنى تخبط لاستيعابهم في أداء الخدمة العامة للمجتمع، وإذا كانت الجامعة في أية مدينة خارج العواصم ومراكز المدن الكبرى، فإنها ستكون مسؤولة عن وقاية الجميع هناك وسلامتهم في ما يخص الصحة العامة والمستلزمات الحياتيَّة الأخرى، التي تتوافق مع تخصصات الجامعة،

 حتى أنَّ رئيس جامعة اصفهان الطبية، استاذ أمراض القلب (البروفيسور شيراني) قال لنا ذات مرةٍ إن هذه الجامعة مسؤولةٌ عن حياة أربعة ملايين ونصفمليون مواطنٍ (وقايةً وسلامة)، لكي تكون الجامعة في خدمة المجتمع وليس عبئاً عليه. وهكذا تعلّمنا جميعًا من مناهج الجامعة واساتذتها في أمكنةٍ بعيدةٍ استطاعوا أن يصلوا بمعرفتهم واكتشافاتهم إلى مناطقَ قصيَّةٍ ليتعلم منها الآخر باختلاف العرق، والجنس، والدين، والثقافة، وأصبحت نظريات هؤلاء أساسيّاتٍ معرفيَّةً تقوم عليها العلوم الصرفة والإنسانية على السواء، ولعلَّ ذكر هؤلاء المعرفيين يتطلب وقتاً طويلاً جداً للتعريف بما صنعوه، وأن جامعاتنا العربيَّة، والعراقيَّة على وجه الخصوص لا تخلو من هذه الالتماعات، أو الأساتذة أصحاب المنجز المحترم، فما زالت طروحات (عبدالجبار عباس، طه باقر، جواد سليم، علي الوردي، عناد غزوان، مدني صالح، جميل نصيف التكريتي، مالك المطلبي، نائل حنون، صلاح القصب، ثامر مهدي، عقيل مهدي) وأسماء أخرى ماثلة في ثقافتنا العراقيَّة، مثلما هيَّ الثقافة العربيَّة.

 ويُخصص موقع رئيس الجامعة في العالم لذوي براءات الاختراع، وأصحاب النظريَّات الفلسفيَّة والفكريَّة، أو الشخصيَّات الأكاديميّة التي تعمل على مفهوم التسامح وحوار الحضارات، أو الحاصلين على جوائزَ عالميَّة الآداب والعلوم، حتى أن الولاياتِ المتحدة الأميركيَّة عندما أرادت أن تكافئ (غورباتشوف) بعد مشروعه، الذي قلب معادلة التوازنات في العالم الموسوم بإعادة الهيكلة (البيريسترويكا)، التي أحدثها بداية تسعينيات القرن العشرين في هيكلة اقتصاديات (الاتحاد السوفيتي) القديم أرادت منحه منصب (رئيس جامعة) اعترافاً بفضله ذلك عليها، وتسهيل مهمتها في تفتيت أكبر قطبيَّة مناوئة لنظامها الرأسمالي. وبخلاف ذلك فإنَّ جامعاتنا تُعدُّ طاردةً للعقول المعرفيَّة، ليست على مستوى الإدارة، بل على مستوى الوجود، فقد تمَّ طرد (نصر حامد ابو زيد) من الجامعة، ومن قبله محاصرة (طه حسين، ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابري، وعلي الوردي، وثامر مهدي، وحميد محمد جواد) وإعدام شمس الدين فارس على سبيل المثال لا الحصر، إذ تتمُّ محاصرتهم بشتى الحجج والذرائع، التي تجعل منهم هوامش في الحرم الجامعي، بعد أنْ كانوا مراكزَ فاعلةً، وبقوة، ومن ثم الخلاص منهم، ووضعهم خارج أسوار الجامعة، بعد أن كانت المكان الحقيقي الذي تنتعش فيه طروحاتهم ورؤاهم، ولعلَّ الحجج القديمة هيَّ ذاتها الجديدة، أو المتجدّدة، مهما اختلف تقليب أسبابها، فمرة هيَّ أفكارٌ معادية لسياسة النظام، ومرة وصفها بالإلحاديَّة اذا اتسمت بالوطنيَّة الخالصة أو الإنسانيَّة (المعرفة الموضوعية الحقيقية)، مثلما حدث لـ (نصر حامد أبو زيد) عندما أراد نقد الخطاب الديني، وإعادة النظر فيه من جديدٍ في ضوء محمولات العصر، وما يشي به الواقع الجديد، أو أمثلة كثيرة في (الثقافي – الجامعي) في الفضاء العراقي. وهكذا فقدت الجامعة الكثير من خطابها التنويري والجمالي الحقيقي، لصالح خطاباتٍ ارتكاسيَّة، أو أيديولوجيَّة، أو راديكاليَّة جذريَّة متزمتة يحملها البعض من أساتذة الجامعة في أوقاتٍ زمنيَّة متفاوتة. 

 ولعل الزمن الحاضر يحمل خصائص التوصيف الارتكاسي، لما وصلته الجامعة من انحطاط على مستوى الأداء الإداري والعلمي، من خلال السيرورات التاريخية، التي عصفت بثقلها على ظهر الجامعة وكسره بقوة، والمجيء بالمتحزب أو البعض، الذي كانت له الفرصة السانحة بالحصول على شهادته المزيّفة، أو موقعه الإداري، بعيداً عن كل التوصيفات التي يحملها العالم لرئيس الجامعة وعميد الكلية، أو التدريسي، وبسيادة ثقافة النيل من الاشتراطات العلميَّة للمفكر الموضوعي في الجامعة بفعل التراكمات الزمنيَّة المتناوبة، الذي يغذّي قديمها الجديد منه، تحول الأستاذ الجامعي من قيمته العليا، ليوضع في أسفل الدرك من الأهميّات، وصولاً إلى تهديده بالعقوبات الانضباطيَّة في حالة فشل طالب جيء به بطرائقَ مخالفةٍ للوائح الجامعيَّة، مثل التوسعة والانفتاح والحزبيَّة والارتجال في القرارات الوزاريَّة، الذي يصدرها وزراء من تلك الفصيلة الجامعَّية، التي تفتقر لسمات الأستاذ الجامعي، والقفز على المستويَّات الدراسيَّة في الحصول على شهاداتهم العليا والتدرجات الوظيفيَّة في الحصول على المواقع الإداريَّة المتقدمة، ليملؤوا الجامعة بعناصرهم المماثلة، ونشر ثقافة التجهيل مقابل ثقافة التنوير، التي أُزيحت بالتعاقب، بوصفها الخطر على ثقافتهم في مجمل (صراع الثقافات) - في تصورهم السلبي طبعاً- لمفهوم الحوار، لأن الثقافة كونيَّة في حضورها وفائدتها وتواصلها، تتجاوز حدود البنيات الزمكانية، ولا تتحدد بها أبداً، كما تتجاوز محددات العرق والدين والجغرافيا، وكل ما يتصل بذلك، وصولاً إلى تفريع الشهادة من محتواها، حين لا تؤدي أغراضها التي وجدت من أجلها. فسياسة الانفتاح في الجامعات، ووجودها في كل محافظة وقضاء وناحية أفسدا مهمتها الرئيسة، وبدا النظر إلى تخريج عددٍ أكبرَ من خريجي الدراسة الإعداديَّة هو الهدف الرئيس إرضاءً لجمهورٍ يعدّه السياسي صوتاً انتخابياً، من خلال حالة تخادم غير معلنة، حتى أضحت سلوكاً اجتماعياً مقترناً في الوقت نفسه بافتتاح الجامعات الأهليَّة، التي تؤدي الغرض النفعي ذاته والانحطاط في مستوى الدرس الأكاديمي.