الاكتفاء.. طموحٌ عراقيٌّ وأنموذجٌ صيني

آراء 2023/09/18
...

  د. صادق كاظم

نجح المزارعون في العراق هذا العام في تحقيق الاكتفاء الذاتي من محصول القمح الضروري والأساسي، وتوفير أموالٍ للبلاد كانت ستنفق على استيراد كميات من القمح المرتفع الأسعار، خصوصا أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا أدت إلى ارتفاع أسعاره بسبب صعوبة تصدير القمح الأوكراني نتيجة لذلك.
تحقيق الاكتفاء الذاتي من المنتجات والمواد الصناعيَّة يعدُّ مطلبًا ضروريًّا وأساسيًّا، خصوصا أن العراق يملك الكثير من المقوّمات التي تؤهله للوصول إلى النقطة الضروريَّة والمفصليَّة للاقتصاد العراقي، الذي بات بحاجةٍ إلى إعادة النهوض به من
جديد.
تستورد البلاد الكثير من احتياجاتها من الخارج، ونصفها من دول الجوار، وهذه المنتجات المستوردة تُنافس وتُزاحم المنتج المحلي وتتسبب في إغلاق المصانع الأهليَّة، التي تعتبر رديفًا ومكملا لقطاع الصناعة الوطنيَّة والذي يستوعب أعدادا كبيرة من الأيدي العاملة وتؤدي إلى تعطل القطاع الخاص وإيقافه وفي إنتاج بطالةٍ كبيرة، حيث ينزل إلى سوق العمل أكثر من 150 ألف شخص سنويا، نسبة كبيرة منهم من خريجي الجامعات، لا تملك الحكومة معها خططا كبيرة ومستقبليَّة لاستيعابهم بشكلٍ صحيحٍ وبما يتناسب مع احتياجات سوق العمل.
يفقد العراق نسبةً كبيرةً من أمواله كلَّ عامٍ كثمنٍ لبضائع مستوردةٍ بالإمكان تصنيعها محليًّا ورفد السوق بها بشرط توفّر الإرادة والقرار السياسي بذلك، مع توفير الحماية للمنتج المحلي من المنافسة، إضافة إلى تطوير القطاع الصناعي العراقي بالاحتياجات المختلفة من المكائن التكنولوجية الحديثة والطاقة والخبرات، إضافة إلى تشجيع القطاع الخاص لغرض الدخول كشريكٍ في العمليَّة الصناعيَّة مباشرة، أو من خلال تبنيه لإقامة مشاريعَ صناعيَّةٍ كبيرةٍ ولصناعاتٍ حديثةٍ ومتطورةٍ مع توفير البيئة الضامنة والداعمة
لذلك.
بقاء الاعتماد على البترول وحده فيه مجازفةٌ كبيرةٌ ومخاطرةٌ اقتصاديَّةٌ لن يسلم أي أحد من عواقبها، والدرس الذي حصل عندما انهارت أسعار البترول قبل عدة سنوات لتلامس العشرين دولارا فقط بعد أن وصلت إلى اكثر من 120 دولارا، ما زال ماثلا ما جعل بعض الدول في المنطقة تسارع إلى إعادة حساباتها، وتشكيل موارد دخلها وثرواتها عبر تنويع مواردها الاقتصادية، وتغيير أنماط الاقتصاد لديها نحو مجالات أكثر ربحًا وأكثر طلبًا، كالطاقات المتجددة والنظيفة وإعادة تدوير النفايات وإنتاج الهيدروجين الاخضر والصناعات الالكترونية والرقائق الذكية، إضافةً إلى الصناعات البتروكيمياويَّة والحديد والصلب والمشتقات البتروليَّة وهو ما تقوم به عدة دولٍ في المنطقة حاليًا كالإمارات والسعوديَّة
والمغرب.
إن مراجعة وضع الاقتصاد وإعادة توجيه بوصلته بما يتلاءم مع موارده وإمكانياته، يعدُّ أمرًا ضروريًّا، خصوصًا مع تزايد أعداد السكان في العراق، وبمعدل مليون مواطن سنويًّا، وهو رقمٌ كبيرٌ ويشكلُّ ضغطًا كبيرًا على الاقتصاد، بشكلٍ عام، إذ أنه مع تراجع الصناعة والزراعة وباقي القطاعات الأخرى، سيؤدي إلى اختلالٍ كبيرٍ وتأكل في الموارد الماليَّة، وعدم تحقق أيِّ فائضٍ مالي بكل الأحوال، ما سيجعل البلاد شبه مفلسة ومديونة.
تحقيق الاكتفاء من خلال خطةٍ مدروسةٍ ودقيقةٍ من أجل تقليل الواردات ونسب البطالة، يعدُّ خطوةً مهمةً لإعادة إنعاش الاقتصاد الوطني وعلى مراحل، وصولًا إلى الاكتفاء التام، ومن ثم الوصول إلى مرحلة التصدير، خصوصا أن المناخ العام يعدُّ مشجعًا، إضافةً إلى وجود علاقاتٍ دوليَّة وإقليمية متميزة، يمكن أن تشجّع على اقتحام الأسواق الخارجية، وتصدير المنتجات العراقيَّة اليها.
إنَّ الصين التي تعدُّ عملاق الاقتصاد العالمي الاول بدأت نهضتها على أيدي مزارعين صغارٍ أقنعوا الحكومة وقتها بأن تمنحهم قطع أراضٍ صغيرة، تعود ملكيتها لهم بدلًا من نظام الملكيَّة الجماعيَّة، الذي فرضته الحكومة عليهم، حيث تمكنوا لاحقًا من تأسيس شركةٍ صغيرةٍ تولّت تسويق محاصيلهم إلى السوق مما شجعهم لاحقًا على التوسع وتصدير منتجاتهم إلى الخارج ليلتقط الزعيم الصيني (دينغ ) هذه الفكرة ليعمّمها على جميع أرجاء الصين، حيث تبنّت الدولة الصينيَّة مفهوم الاقتصاد الحر ووضع العقائد السياسيَّة الجامدة في الثلاجة، ما جعل الصين تتصدر الاقتصاد العالمي اليوم بفضل إنتاجها الضخم، وطريقة توظيفها المدهش للموارد.