الديمقراطيَّة وشرط الوعي السياسي

آراء 2023/09/20
...

ثامر عباس

لمفهوم الديمقراطيَّة أوجه عدة، وجوانب متنوعة كما لبقية المفاهيم الأخرى ذات الطابع السياسي والاجتماعي، الأمر الذي يجعل منها محل خلاف واختلاف بين الجماعات التي تؤمن بها وتتبناها من جهة، وبين تلك التي تدينها ترفضها من جهة أخرى. وعلى الرغم من حجم الخلافات وطبيعة الاختلافات التي يكون مفهوم الديمقراطيَّة سببًا لها ومصدرًا أساسيًا من مصادرها، إلا أن الغالبية العظمى من الكتاب والباحثين المعنيين بهذا الشأن دأبوا على تركيز اهتمامهم على تناول أحد تلك الأوجه أو الجوانب دون بقية الأوجه والجوانب الأخرى، التي ربما لا تقل أهمية - إن لم تكن أشد ضرورة وأكثر أهميَّة في بعض الأحيان – من سواها لاعتبارات شتى لا يسع المجال هنا التفصيل بشأنها.

ولعلَّ من أبرز تلك الجوانب التي تمَّ التركيز عليها والإشارة إليها في الدراسات والخطابات هي القضايا المتعلقة بكون الديمقراطيَّة تهتم أساسا؛ أما بالصيغة التي يحكم من خلالها الشعب نفسه بنفسه، أو بالمبدأ الأساسي المتضمن الفصل بين السلطات التنفيذيَّة والتشريعيَّة والقضائيَّة، أو بالآليَّة التي يتم عن طريقها جعل مصادر السلطة السياسية خاضعة لعملية التداول السلمي بين القوى الفاعلة في المجتمع. والحال إن كل هذه الشروط المواصفات المذكورة صحيحة، بقدر ما هي أساسيَّة وضروريَّة – من وجهة نظر الفكرة الديمقراطيَّة - لتحقيق التوازن الاجتماعي والاستقرار السياسي في تجارب حكم المجتمعات، التي لا تزال تتعثر داخل أطوار شرانقها البدائية، بحيث يستحيل دون تحقيق أيٍّ منها الإيفاء بمطالب الديمقراطيَّة المؤسسة. ولكن، هل يا ترى أن الرهان على تلك الصيغ المؤسسية كافٍ لوحده لضمان نجاح مشروع الديمقراطيَّة العتيد، وبالتالي الاطمئنان إلى حصاد مخرجاتها السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة التي قلما تحققت على أرض الواقع، بحيث يتمكن الإنسان من بلوغ مآربه في الانتقال من عالم الضرورة إلى عالم الحرية.
فعلى الرغم من أهميَّة وضرورة بلوغ، ولو الحد الأدنى، من النتائج المرجوة والحصائل المتوخاة من تبني النظام الديمقراطي في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع، إلاّ أنه من الأكثر أهميَّةُ والأشد ضرورةً – لجني ثمار الديمقراطيَّة حقًا وفعلا، ومن ثم الاستفادة من عوائدها الماديَّة والمعنويَّة - هو التركيز على ميادين ومجالات غالبا ما أهملت عن قصد، أو جرى التقليل من شأنها والحط من قيمتها لاعتبارات شتى من مثل؛ أنماط الوعي الاجتماعي، وتمثلات الذاكرة التاريخيَّة، وأنساق الثقافة الفولكلوريَّة، التي يصعب على مثل هذا النمط من المجتمعات التخلي عن إيحاءاتها السيكولوجيَّة والرمزيَّة بسهولة. خصوصا أن غياب سلطة (الدولة) وانعدام هيبة (القانون) غالبا ما تحفّز الأفراد وتشجّع الجماعات على التمسك بأنماط علاقات ما قبل تكوين الدولة، والرهان على روابط ثقافات ما قبل صيرورة القانون، حيث علاقات التغالب والتكالب في الحالة الأولى من جهة، والتزامات التقاطب الأقوامي والتمذهب الطوائفي في الحالة الثانية من جهة أخرى.
وفي إطار الحديث عن الفكرة الديمقراطيَّة ومدى أهميتها في مجالات شرعنة العلاقات والصلاحيات بين الدولة والمجتمع من جهة، وعلقنة التصوّرات والتمثلات بين الأفراد والجماعات من جهةٍ أخرى، يغدو من الضرورة بمكان الإشارة إلى أنَّ نجاح المشروع الديمقراطي في مسائل البناء الاجتماعي والإصلاح الاقتصادي والنهوض الحضاري، مرهونٌ (حصرا) بأولوية توفّر (الجمهور) المنوط به تحقيق مضمون تلك الفكرة على أرض الواقع، على قسطٍ لا بأس به من عناصر الوعي (السياسي) تحديدا. ذلك لأن هذا النمط من الوعي يعدُّ من أكثر أنماط الوعي نضوجا واكتمالا في منظومات الوعي الاجتماعي، حيث لا يستطيع الإنسان - عبره ومن خلاله – من تخطي عوائق خلفياته ومرجعيّاته وتواضعاته البدائيّة فحسب، وإنما يمكنه كذلك من حيازة القدرة على التمييز بين حقوقه الشخصيَّة والاجتماعيَّة وبين واجباته الوطنيَّة والإنسانية، التي طالما كان التداخل والتخالط بينهما سببا أساسيا من أسباب فشل المجتمعات المتصدعة والمتشظيَّة في التغلب على عوامل تخلّفها الاجتماعي المزمن وعدم استقرارها السياسي المتوطن.