علي المرهج
للشرق تمظهراتٌ عدَة، فالشرق الأوسط غير الشرق الأقصى وإن كان في ما بين الشرقين بعضٌ من تلاق، والشرق الإسلامي هو غير الشرق العربي، فالإسلام دينٌ والعروبة قوميَّةٌ فيها خليطٌ من دياناتٍ مُختلفة وإن شكل المسلمون الأكثرية العددية فيه، والشرق «المُستعمر» مُختلفٌ عن الشرق الذي كان مُستعمِرًا منذ قرونٍ خلت. ولك أن ترى في الشرق الإسلامي تنوعًا واختلافًا هوياتيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا، رغم وجود الإسلام كعامل ربطٍ بين حضاراته، ولكن الإسلام الفارسي غير الإسلام التركي، وكلاهما يختلفانِ عن الإسلام في المنطقة العربيَّة.
والغرب له تمظهراتٌ عدَة، فالغرب الكولنيالي هو غير الغرب الثقافي والعلمي، والغرب المسيحي هو غير الغرب الإنساني، الذي ظهرت فيه حركات النهضة والأنسنة والتنوير.
وخذ مثلاً على تشكل الهويات الفرعيَّة داخل الحضارة الواحدة تأكيدنا على أن (الإسلام «الأنا» والمسيحيَّة «الآخر»)، ويمكن أن تحتمل أيضا العلاقة الدينية والثقافية معاً (الإسلام والغرب). وقد اخترنا الأول لاعتقادنا بأن الإسلام مكون حضاري وديني في الوقت نفسه، ومن الممكن أن يكون مُتداخلاً بشكل أو آخر مع الوعي الغربي، فالديانة الإسلاميَّة كما هو معروف تأتي بعد الديانة المسيحيَّة على المستوى العقائدي في الغرب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أن المسيحيَّة تشكل أحد مكونات هويَّة «الأنا» الثقافية والتاريخية.
نحن نعلم جميعاً أن الثقافة الإسلاميَّة كانت سبباً من أسباب نمو الوعي الغربي، وهي الوسيط بين ثقافة اليونان والتنوير الأوروبي. ومعلوم أثر الفلاسفة والعلماء العرب في أوروبا، كما هو معلومٌ عندنا دور المسيحيين وأبناء الديانات الأخرى في بناء الفكر والحضارة العربيَّة والإسلاميَّة، ولكن المسيحيين هويتهم (العروبة)، ولا يرغبون في أن يطوي هويتهم الدينيَّة أو العروبيَّة لا الإسلاميين ولا غيرهم، وهذا حقٌ لهم تضمنه الشرائع الدوليَّة والديانات السماويَّة، والحال ينطبق على كل الأقليات في كل بقاع الأرض، فهم يمتلكون هويَّة فرعية يعتزون بتاريخها، ولهم هويَّة وطنيَّة، وأخرى قوميَّة، وأوسع منها هي الهويَّة الحضاريَّة، وأكثر اتساعاً هي الهويَّة الإنسانية التي يتشاركون فيها مع كل أبناء الخليقة على هذه البسيطة، ولا أظنَّ أن هذا مشكلٌ بحد ذاته، ولكن المُشكل الأكبر هو في تنامي هذه (الهويات الفرعيَّة) لتتحول لغولٍ يقضي على الهويَّة الحضاريَّة.
في سياق هذا الحديث عن تشكل لا بدَّ لنا من أن نستحضر المقابلة بين الإسلام والغرب، وهي المقابلة الأكثر شيوعاً في أدبيات التداول الثقافي والسياسي في الشرق والغرب على حد سواء، لنقول إن مثل هكذا نعتقد مُقابلة غير جائزة، إن لم نقل إنها مقابلةٌ جائرة، كونها مقابلةً بين ديانةً وثقافة، فالإسلام دينٌ والغرب مُكونٌ ثقافيٌّ وحضاريٌّ وليس ديناً، والدين يشكل أحد مكونات الهويَّة لا جميعها، وكذا الحال في الحضارة العربيَّة والإسلاميَّة بوصفهما جزءًا من كُل، والكُل هو انتماء الحضارتين بطابعيهما المسيحي والإسلامي لمُسمى حضاري أشمل هو حضارة الشرق.
أما القول بالعلاقة بين الشرق والغرب، فذلك مبنيٌّ على أساس جغرافي مكاني، الطبيعة والجغرافية شاركتا في تشكيل هويَّة هذا الإنسان «الشرقي»، ولكنها لم تكن هويَّةً متكورةً حول نفسها، بل هي هويَّةٌ حضاريَّة أخذت وأعطت، لذلك نجدها في انفتاحها الفكري قد ساهمت في تشكيل رؤية الآخر لنفسه، أو شاركت في بلورة وعيه الثقافي والمعرفي، والأمر ينطبق عليها، بوصفها هويَّةً حضاريَّةً تأخذ وتُعطي، فهي أيضاً حضارةٌ نهلت من حضارت سبقت.
لا ينبغي لنا نسيان أطروحات المعاصرة، التي سادت في الفكر الغربي متمثلة بأطروحة «نهاية التاريخ» لفوكوياما و»صدام الحضارات» لهنتينكتون، فضلاً عن أطروحة توفلر حول «حضارة الموجة الثالثة» و»صدمة المستقبل»، والتي تصب كلّها في خدمة فكرة «العولمة»، التي لم تبق في إطار كونها فكرةً بقدر ما كان الغرب ساعياً، وما زال إلى تطبيقها، والتي تذهب إلى تكريس المقولة السابقة المؤمنة بمركزية الغرب وهامشية الشرق، أو التي تقسم العالم إلى بلدان شمال وبلدان جنوب، سادةً وعبيدا، ضمن مفهوم «القرية الكونيَّة»، الذي يُكرَس مفهوم التبعيَّة ومحاولة خلق مجتمعات استهلاكية تدين باستهلاكها للمجتمع المنتج متمثلاً بالمجتمع الغربي والامريكي تحديداً، والذي يجعل مفهوم «الدولة الرخوة» قابلاً للتطبيق، بقصد إلغاء الهويات الوطنية وتذويبها ضمن دولة المركز، وغياب الهويَّة الوطنيَّة.