عبدالله حميد العتابي
كان من الواضح أن التدخل العسكري، سمة أساسيَّة من سمات السياسة الخارجيَّة الأمريكيَّة على مدار تاريخهم القصير، لا سيما في فكر الحزب الجمهوري، وإن لم يكن الديمقراطيون بعيدين عن ممارسة التدخل العسكري لتحقيق مصالح الولايات المتحدة القومية، لكن من الملامح الجديدة للسياسة الخارجيَّة في عهد الرئيس بايدن بعد أقل من ثلاث سنوات على ولايته؛ تراجع الاعتماد على الخيار العسكري وإعطاء الأولويَّة للعمل الدبلوماسي،
فالدبلوماسيَّة يجب أن تكون الأداة الأولى للقوة الأميركيَّة، ويجمع الديمقراطيون على ضرورة إنهاء الحروب الطويلة، وهي الحروب المفتوحة منذ اكثر من عشرين سنة، وكلّفت أكثر من خمسة تريليونات دولار، وتسببت في مقتل أكثر من نصف مليون إنسان. يعترف الرئيس بايدن بأن الاعتماد المفرط والوحيد على القوة العسكرية، بدلا من تنويع وتوظيف نقاط القوة، التي تمتلكها الولايات المتحدة؛ كان من الأخطاء الستراتيجيَّة التي ارتكبتها الإدارات السابقة، و”حان الوقت لإنهاء الحروب الطويلة التي كلّفت الولايات المتحدة الأميركيَّة دماءً وأموالًا لا توصف.. يجب علينا إرجاع الغالبية العظمى من جنودنا إلى الوطن من أفغانستان والشرق الأوسط، وتحديد مهمتنا بدقةٍ على أنها هزيمة القاعدة وتنظيم داعش” -على حد قوله - فاستخدام القوة العسكرية الأميركيَّة في منظور بايدن :”يجب أن يكون الملاذ الأخير لا الأول، ويجب استخدامه فقط للدفاع عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأميركيَّة، عندما يكون الهدف واضحًا وقابلًا للتحقق، وبموافقة مستنيرة من الشعب الأميركي”، يحصر بايدن مهام الجيش الأميركي خارجيًّا في محاربة الإرهاب، ومن ثم يسقط الرئيس الأميركي والديمقراطيون من أجندتهم احتلال الدول وإسقاط الأنظمة الحاكمة، وهذا اعترافٌ أميركيٌّ بعدم الرهان على خيار الحرب الوقائية في التعامل مع الدول، التي تشكل حاضنةً للجماعات المتطرفة، وتلك التي تهدد المصالح الأميركيَّة، وهو توجه حكم إدارة الرئيس جورج بوش الابن في ولايتها الأولى. هذا التوجه لدى إدارة الرئيس بايدن في عدم الرهان على إسقاط الأنظمة، وعدم الرهان على الهندسة الاجتماعيَّة الطموحة، كما روجت لها إدارة بوش الأولى، تحت تأثير تيار المحافظين الجدد، هو توجه يتوافق مع “الويلسونيَّة” الواقعيَّة كما بلورها المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما، الذي أكد أن الحرب الوقائية خيارٌ غير صائب، ولا يمكن اللجوء إليها إلا في حالة الضرورة القصوى “كإجراءٍ متطرفٍ جدا”. ورغم توجه إدارة بايدن والديمقراطيين نحو التخلي عن استعمال القوة العسكريَّة إلا في حالات محدودة، فإنهم يميزون في توظيف القوة العسكرية بين انتشار عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين كما وقع في الحربين على أفغانستان والعراق، وبين استخدام عشرات أو مئات من جنود القوات الخاصة في عمليات دقيقة ومحددة وبدعم من الشركاء المحليين. هذا النوع من العمليات - وفقا للرئيس بايدن- قابل “للاستمرار عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، ويعمل على تعزيز المصلحة الوطنيَّة”. ويضرب وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكيَّة بلينكن مثلا على هذا التمييز بنموذج السياسة، التي أتبعها الرئيس باراك أوباما في سوريا، ففي هذا البلد تمت هزيمة تنظيم داعش بواسطة توفير الولايات المتحدة ألفي عنصر من القوات الخاصة، ساندوا أكثر من ستين ألفا من مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية، الذين تولوا القتال المباشر مع مقاتلي تنظيم داعش، فهذا النهج “ذكيٌّ، وقويٌّ، ومستدامٌ، وفعال”. نلاحظ أن التراجع عن خيار استعمال القوة العسكرية بشكلٍ واسعٍ من قبل إدارة بايدن يتقاطع إلى حدٍ بعيدٍ مع المدرسة الواقعيَّة في العلاقات الدوليَّة، والتي كان أغلب منظريها يعارض حرب العراق التي “تحولت إلى كارثةٍ ستراتيجيَّةٍ بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركيَّة” وهو الأمر الذي عبّر عنه الرئيس بايدن بشكل صريح، قائلا:” إن البقاء في صراعات لا يمكن كسبها يستنزف قدرتنا على القيادة في قضايا أخرى تتطلب اهتمامنا، ويمنعنا من إعادة بناء الأدوات الأخرى للقوة الأميركيَّة”. يؤكد بايدن إذن أن حروب الولايات المتحدة كانت في غير صالحها، وأنها أضعفتها لصالح الصين، التي استغلت الانشغال الأميركي بحروب ما بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001 لزيادة نفوذها في العالم على حساب المصالح الأميركيَّة.