خضير هادي.. بصمة مميَّزة في المشهد الشعري الغنائي

ثقافة شعبية 2019/05/07
...

عادل العرداوي
أجد نفسي ملزماً بعد أنْ خطف الموت الرهيب خضير هادي الشاعر المرهف والمتمرد.. خطفه منا في رحلة أبديَّة لا عودة منها ثانية.
خضير هادي التميمي وهذا اسمه الكامل.. عرفته وعرفني في أواسط ثمانينيات القرن الماضي.. يومها كنت أعمل في جريدة “الاتحاد” الأسبوعيَّة مشرفاً على صفحة (الأدب الشعبي) التي تعدُّ من أبرز صفحات الأدب الشعبي في الصحافة العراقية وقتذاك.
وكانت تلك الصفحة تتلقى مئات الرسائل أسبوعياً محملة بقصائد ونتاجات الشعراء من أنحاء العراق.. كان خضير هادي الذي لم أعرفه من قبل ولم ألتقه بشكلٍ مباشرٍ يبعثُ بنتاجاته الشعرية المبكرة عبر البريد أو ربما كان يوصلها بيده الى إدارة الجريدة وأنا أتسلمها أسوة بعشرات الرسائل والقصائد والأبيات التي لا تستوعبها تلك الصفحة الأسبوعيَّة.
كنت أرد على خضير في بريد الصفحة بأنَّ قصيدتك بحاجة إلى إعادة نظر..! نأمل أنْ تصلنا قصيدة أنضج وأحلى وهكذا أفعل مع بقية الشعراء الشباب الآخرين وهم في بداية مشوارهم الشعري الطويل.. وذلك أمرٌ طبيعي يمرُّ به كل المبدعين في بدايات حياتهم وأنا كنت واحداً منهم.
لم يتحمل خضير هادي تلك الردود والإشارات التي كنت أوجهها له عبر الجريدة.. وربما كان يتضايق منها ربما..!
في يوم ما، وفي واحدة من أماسي جمعيَّة الشعراء الشعبيين/ المركز العام يوم كان مقرها في كورنيش الأعظمية وكنت أميناً لسرها، يومها كلفت من قبل الجمعية بإدارة تلك الأمسية الشعريَّة وهكذا تسلمت ورقة قائمة أسماء الشعراء الذين سيتلون نتاجاتهم من منصة الجمعية، لاحظت من بين الأسماء اسم خضير هادي، وبدأت الأمسية وتقاطر الشعراء بإلقاء قصائدهم واحداً بعد الآخر، ووصل الدور الى خضير هادي الذي ناديته الى المنصة.
شاب متوسط الطول مملوء الجسم لا يعتني كثيراً بمظهره ولا بتسريحة شعر رأسه، صورته أجش، قوي النبرات، صافحته عند المنصة وقلت له: يا خضير أنت الذي تراسلني الى الجريدة؟
أجاب: نعم أنا خضير وأتشرف بمعرفتك أستادي، وضحك واردفني بصوت خافت: دير بالك عليه بالنشر.
قلت له: تتدلل واليوم راح أسمع قصيدتك وأحكم عليها إذا أعجبتني سوف أنشرها لك في الجريدة مباشرة.
وهكذا ارتقى خضير المنصة وسمعت منه نصاً غنائياً جميلاً ولاحظت طريقة إلقائه وانفعاله وحركات يديه وطبقات صوته وتلقائيته. أعجبتني حقاً وهكذا تفاعل معه الحاضرون وصفقوا له وطلبوا منه الإعادة، وهكذا أخذت تلك القصيدة منه ونشرتها بالفعل، وكانت هذه الوقفة بداية الشهرة لهذا الشاعر المتمرد والمجدد.
 
افتحلي باب القفص..
من عمري ضاعن فرص..
احجيلك انه قصص..!
ما مرت بانسان..
طير انه اهوه السما..
ومتعلق بسجان..
لا يحن هو علي..
لا طاير وخلصان..
لو انته مثلي تحب 
مسجون ما خليك..
جان اخذ امن العمر..
من العمر وانطيك
تدري انته بيك اشكثر 
بيك اشكثر ولهان 
گد السما والهوا.. 
والشجر والأغصان
 
وهكذا انطلق خضير في رحاب الشعر الغنائي محلقاً في عالم من العذوبة والشجن.
 
حتى ماشوفك وموت
راح اغمض وانته فوت..!
 
لا بل إنه اقتحم عالم كاسيت القصيدة المسجلة وحقق فيه نجاحات ملموسة وتبارى مع أقرانه في المضمار 
وتجاوزهم: 
 
يا دمعه حزينه الخد تلگاج..
بس لا ترمش العين وتطيحين 
چم بسمه جميله تفارك اشفاج..؟
وانتي اعله الچفن بهداي تدبين..
الزكي اعله الرمش لومروا اعداج 
ومن يرحون فيضي اشما تفيضين..!
 
وتستمر رحلة خضير خارج بلده ومحيطه وناسه، قصائده الكثيرة تنبض بألم الفراق الذي أكل خضير هادي وعذبه طويلاً طويلاً:
 
إذا جفت اعيوني وما تصب ماي 
امنين اعيون اجيب بدمعي تغرك 
واذا ربعي نسوني ابمحنتي هاي 
مو حكي امن اطلك الدنيه وازهك..!
كبر جرحي وبعد ما ينفع ادواي 
صرخت ابصوت عالي الحالي الحك..
 
هذه صورة ناطقة لمعاناته جراء الغربة وهو المتعلق ببئته ومرابع طفولته الغضة:
 
جنت ازغير ازغير كلش 
العب توكي وحميدان..
جنت ازغير ازغير كلش 
العب شاكه وغميضان..!
 
وعندما اختطفت الموصل الحبيبة من قبل العصابات الإرهابية في العام 2014 يتجلى معدن خضير هادي بهذه الومضة الصارخة التي استذكر فيها صولة أجداده بالفالة والمكوار في ثورة العشرين التحررية:
 
اني اصلي أنه اجنوبي 
الغيره تعثر ابثوبي 
جدي هد وبيده فاله 
 (الموصل) اترد لا محالة
 
رحم الله خضير هادي الشاعر المرهف والمتمرد وصاحب الصوت والبصمة البارزة الذي تضاربت فيه الآراء ووجهات النظر، فمنهم من يعشقه حد الوله ومنهم من يتضايق منه ومن اسمه ومن طريقة إلقائه المميزة عن أقرانه، سبحان الله ففي الناس مذاهب في عشقهم وكرههم وهذا ديدن البشر وسيبقون كذلك.! 
المهم في الأمر خضير هادي رحل عنا وخلف له صورة في مضمار الحرف الشعبي المعبر.