سياسةُ التّـنـوير لا التّـدوير

ثقافة 2019/05/07
...

رعـد فاضل
 
 
(1)
إنّ ما يقع داخل الإسلام منطقيّاً لابدّ أن يؤمَنَ به بوصفه وحدةً كما يفهم المسلمون بعامّةٍ، أمّا التنوّع الطائفيّ فهو ليس إلّا زوايا نظرٍ في فهم أفكار الدّين وتقاليده، وما أيّة محاولة للتّرسيخ خارج هذا المنطق إنّما هي خلخلة لجوهر الدّين نفسه، وهذا طبعاً من وجهة نظر الدّين بوصفه وحدة كلّية واحدة. إنّ وراء كلّ تمذهب أديولوجيا ذات أبعاد ومرامٍ - في الأغلب- خارج دينيّة؛ ارتداداً إلى تلك الخِلافات القديمة حول قيادة الإسلام لا بوصفه ديناً وإنّما بوصفه سلطةً وحكماً، لا حول هذا الفهم الفقهيّ المحض أو ذاك، إلّا من جهة تدعيم المذهب لرؤيته الفكريّة والسياسيّة. ولأنّ الإسلام روّج للشموليّة فقد ضمّ أمماً متنوعة في  تركيباتها الثقافية والاجتماعية والتاريخية والسياسيّة..، هذا التنوّع أدّى فيما بعد إلى تشكّل (أمّة) جديدة (اسلاميّة) نمت داخل تركيبة العرب بوصفهم (أمّة)، غير أنّ الفكر العِرقيّ والسياسيّ لهذه الأمم ظلّ مرتبطاً ارتباطاً جذرياً خفيّاً بنزعاته القوميّة الأصليّة التي نشأ عليها قبل التحاقه بالإسلام بوصفه فكراً واحداً وأمّة واحدة في آنٍ معاً. وفي الحقيقة غالباً ما كان  تمرّد هذا الفكر على الثقافة العربيّة بوصفها مادّة هذا الدّين، وليس دائماً على فكرة الإسلام نفسها. ففي الوقت الذي تمكّن فيه الإسلام من توحيد بنيات هذا التنوع الثقافيّ والاجتماعيّ والتاريخي بأساليب شتّى على وفق فكرة ذات منبت واحد، ووفقاً لصياغة روحيّة واحدة: ظلّت هذه البنياتُ- الأممُ تعيش شيئاً أشبه ما يكون بصدمة النّوع الجديد المخترِق لسياقاتها الأصليّة في عهود ما قبل اسلامها. 
أين المشكلة تحديداً إذا؟. المشكلة ليست في الثقافة العربية حسب وإنّما في الحياة العربية بأكملها التي كانت ولا تزال تواجه صراعاً ينزع باتجاه تشقيقها مِزَقاً من داخلها، صراعاً تقوده أطراف عدّة مختلفة في الأساليب وملتقيةٌ في الأهداف، فالآخر بقوّته الإقتصادية والعسكرية والسّياسية والإعلامية من جهةٍ  بوصفه أخطر الأطراف من خارجٍ، والنّزعات العربية التقليدية المتّحصنة بالماضي بوصفها طرفاً ما زال يلعب على أوتار الرّومانسية العربية القديمة من جهة ثانية، بالإضافة إلى بعض البنيات الإسلامية غير العربية التي احتواها التركيب العربيّ الإسلاميّ التي عادت تعمل بقوّة حنينها إلى ماضيها ما قبل اسلامها، على زعزعة وحدة هذا الاحتواء وهي بطبيعة حالها تعمل من الدّاخل الإسلاميّ نفسه عبر حقّها في الدّيمقراطية وحقوق الإنسان. فأنْ يكون النّظام السياسيّ العربيّ استبداديّاً فهذا لا يعني عمقيّاً أنّ  طبيعة الثقافة العربية الإسلامية كلّها فرديّة واستبداديّةٌ أيضاً، على الرغم من أنها في أغلبها طوال أربعة عشر قرناً ماهي إلّا نتاج للعقل السياسيّ العربيّ الشموليّ، وأنّ الاطاحة بهذا النظام السياسيّ العربيّ أو ذاك لا يتطلّب بطبيعة الحال الإطاحة بالثقافة نفسها مُظلمها ومُشرقها على حدّ سواء، وإلّا ما معنى أن تكون مسلماً غيرَ عربيّ ايماناً وتطلّعاً وثقافة ثم تعمل على تحطيم كلّ ما هو عربيّ محتمياً بكونك 
مسلماً؟!. 
قد يكون هذا منطقياً من وجهة النظر الشموليّة للإسلام السياسيّ طبعاً، عندما لا يتنكّر المسلم غيرُ العربيّ للثقافة العربية حسب، إذ عليه والحال هذه أن يتنكّر قبل ذلك لإسلامه نفسه إذ إنّه بتنكّره لهذه الثقافة إنّما يتنكّر بالمعنى العميق للغة العربية نفسها التي هي لغة الدّين نفسه. وعلى هذا الأساس إذا كان الاختلاف في الدّين جوهريّاً عرقيّاً وسياسيّاً فسيؤدّي بالضّرورة إلى الطّائفية ومن ثمّ إلى الاحتراب. تمكّنت أوروبا عبر القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين من فهم تراثها على الرّغم من تنوعه القوميّ المتباين، وعملت على زحزحة كلّ ما من شأنه الحيلولة دون خلق حاضر خلّاق ينسجم وتطلّعاتها. وكان كلّما دشّن الأوربيون عصراً فكريّاً وعلميّاً وحضاريّاً جديداً؛ فهماً واستنباطاً وانتاجاً.. كانوا يعملون على تجاوزه، بسببٍ من أنّهم لا ينظرون إليه إلّا بوصفه حلقة لابدّ من تجاوزها إلى حلقة أماميّة أخرى في سلسلة صناعتهم للمستقبل كونهم لا ينظرون إلى الماضي إلّا رغبة في تجاوزه.
 إنّ هذا التوصيف للفكر الاوروبيّ استثنائيّ بطبيعة الواقع لا يمكن تعميمه أو اسقاطه على الواقع العربيّ الإسلاميّ، لأنّ استلهام العرب لتراثهم - حسب الفهم الذي لا يزال سائداً- إنّما ينبع من فهم سلطة العقليّات الفكرية والسّياسية التي تنظِّر لهم، وتقودهم وتتحكّم برسم سياسة ثقافتهم على المستويات كافّة. 
عندما تعود أوروبا إلى تراثها إنّما تكون عودتها هذه فحصيّة اختباريّةً، أمّا عودة العربيّ فهي مزدوجة إذ إنّها دينية روحيّة في المقام الأول، وقوميّة في المقام الثاني، إنّها عودة الرومانسيّ الاستلهاميّ لا العقلانيّ الباحث المتجاوز، لكنّ الخطورة هنا تكمن دائماً في عدم فهم العربيّ لهذا الاستلهام فهماً جوهرياً، من جهة أنّه يظلّ يضفي على ماضيه نوعاً من الأيقونيّة (الصنميّة) المتزمّتة، ويظلّ يؤثّم مَن يحاول تجاوزها.
 هذا الفهم كان ولا يزال وراء اتّساع الهوّة الحضاريّة ما بين حداثة الفكر/ وصنميّته؛ فتحوّل هذا الاستلهام إلى ارتداد ونكوص، لا إلى بحث وتقصّ واكتشاف ليكون المَبحوث عنه مُلهِماً وصالحاً حقاً للخدمة الحضارية وفقاً لمتطلّبات كلّ عصر.
 
(2)
يبدو أنّه كان من المؤمّل للإنسان أن يقتات على غير بني جنسه غير أنّ خيبة الأمل، على ما يبدو، كانت القاعدة لا الاستثناءَ، وفي اِمكاننا نحن المتّهمين بقلّة آدميّتنا كوننا نرسيسيينَ بفعل اشتغالنا في الكتابة والجمال! أن نسوق أفقاً من الأمثلة على هذه الخيبة، ابتداءً من هابيل وقابيل، حتّى آخر مهمة تقتيل آدميّة بشتّى صنوفها الفكريّة والجسديّة والعاطفيّة والسّياسيّة والاقتصادية...، نحن ((القلّة الهائلة)) القاطنين على هامش عالم القابيليينَ الواسع؛ سلطةً ورأسَ مال وأتباعاً وثقافة. الطّغيان إذاً:  أسطورة، وما الطّغاة  الواضحون والمستترون إلّا شرايين هذا 
العالَم!.     نحن الهابيليينَ نتطلّب لمسة قابيليّةً لا لشيء إلّا لندلّل في الأقلّ على آدميّتنا، بعيداً عن كلّ هابيليّة. لو كنّا آدميينَ جوهريّاً لكُنّا، من أوّلٍ، تجمّعنا في هبائلَ(نسبةً إلى هابيلَ)، وليس في 
قبائل.