سالم مشكور
ليس صحيحًا القول إن العراق لم يعد أولوية في سياسة واشنطن الخارجية، وأن أولويتها الآن هي مواجهة التمدد الصيني، والحرب الأوكرانية الروسية. فالعراق لم يكن يوماً أولوية في السياسة الأميركية، بل كان ولا يزال ذا أهمية كبيرة لسياسة واشنطن الإقليمية. ومع الملفات الجديدة لواشنطن، في المنطقة، أي التمدد الصيني، وحرب أوكرانيا، تزداد أهمية العراق لواشنطن، موقعاً ستراتيجياً، وطاقةً، في ظل الحاجة إلى إمدادات طاقةٍ بديلة عن روسيا، ومواجهة اقتصاديَّة- سياسية مع التنين الصيني.
حاجة واشنطن إلى خطوط إمداد غاز ونفط من، وعبر العراق هو الذي جعلها تدعم هدوءًا سياسياً وحسماً لأزمة التكليف والصراع على من يتزعم المشهد السياسي قبل حوالي العام.
ستراتيجيا، فان حاجة واشنطن إلى العراق كمنطلق عسكري- استخباري لها في المنطقة، كانت وراء التبدل الحاد في خطاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب حيال الوجود العسكري الأميركي في العراق. فبعد أن كان أحد وعوده للناخبين سحب القوات من العراق، راح يتحدث عن تشبثه بقاعدة عين الأسد قائلاً: إن بلادة أنفقت كثيراً في إقامة منشآتها ومدرج الطائرات فيها لحاجتها لها في تحركها في المنطقة، بينما القوات الموجودة فيها قتالية عدداً وعدّة، رغم الحديث العراقي والأميركي عن صفتها الاستشارية والتدريبية.
واضح أن رئيس الحكومة وضع ذلك في حسابه وهو يحمل معه عروضًا استثمارية، ويتحدث عن خطوات مطمئنة للمستثمرين الباحثين عن أمن لاستثماراتهم. أصحاب الشركات والمصالح كانوا أكثر اهتمامًا هذه المرة بالحديث مع رأس السلطة التنفيذية العراقي، بعد تخلٍّ عن هذا الاهتمام لعدة سنوات، كان رؤساء الوزارات فيها يقدمون العروض والضمانات ذاتها، لكن التنفيذ كان يصطدم بكوابح محلية، سياسية وأمنية، فيما تغيب المتابعة لما يتفق عليه. أتذكر جيداً كيف أن المدير التنفيذي لشركة أكسون موبيل النفطية العملاقة ريكس تيلرسون (أصبح وزيراً للخارجية في عهد ترامب)، التقى رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي وعرض عليه التخلّي عن استثماره في إقليم كردستان مقابل عقد مجزٍ في حقول الجنوب، وكان المالكي متحمساً لعمل هذه الشركة في العراق لعلمه بأهمية وجودها ودورها في كسب دعم سياسي وأمني للعراق. وافق المالكي على الفور وأحال الامر إلى الدكتور حسين الشهرستاني حينها لمتابعته، لكنه وضعه على طريق التسويف وعاد تيلرسون أدراجه ليبني امبراطوية في الإقليم. لاحقاً. وخلال احتلال عصابات داعش لمحافظات عراقية، سألت لجنة الدفاع في الكونغرس وزير الدفاع الأميركي آنذاك عن سبب تحرك القوات الأميركية لحماية أربيل، بينما لم تتحرك لحماية بغداد التي كانت عصابات داعش بلغت مشارفها: أجاب الوزير: لأن لدينا مصالح في أربيل ولا بد من الدفاع عنها.
خلق مصالح للآخرين عندنا أسلوبٌ ناجعٌ لكسب دعم الاخرين، لكننا لم نستخدم ذلك بعد ٢٠٠٣، حتى لو توفرت النية والإرادة عند رأس السلطة، بسبب كثيرة الكوابح والتوجهات السياسية المتضاربة عند السياسيين. هذا الوعي موجودٌ عند رئيس الوزراء السوداني وقد أفصح عنه في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما قال ان حكومته تسعى إلى ربط المصالح مع الدول الجارة لتحقيق الأمن والاستقرار في العراق والمنطقة، وهو ما ينطبق أيضاً على العلاقة مع واشنطن، التي باتت مصلحتها تكمن في استقرار عراقي يؤمن تدفق الطاقة من العراق، وعبره إلى العالم.
ما نحتاجه اليوم هو استثمار هذه الفرصة ليس لتحقيق الاستقرار وحسب، إنما لجذب الاستثمارات الأميركية والأوروبية والإقليمية لتشييد بنية تحتية تنتشل العراق من واقعه الخدمي والاقتصادي الحالي، شريطة ضرب جميع الأيادي التي تعرقل ذلك، لمصالحها الضيقة أو لمصالح آخرين، كي لا نكرر تجارب الماضي الفاشلة.