الولاء لمن يدفع أكثر

آراء 2023/09/26
...







 ميادة سفر

يشكل المال الدافع الأول وربما الوحيد الذي يدفع أفراد الشركات العسكريَّة الخاصة للقتال، تلك الشركات التي تصدرت المشهد العسكري في العديد من دول العالم في العقود الأخيرة، وتحوّلت مع الوقت إلى رديف أساسي للجيوش النظامية، وحلت في بعض المواقع محلها وقاتلت بالنيابة عنها وتحملت بالتالي وزر أية عقوبات، يمكن أن تتعرض لها النظامية والدول التابعة لها، قوات فاغنر الروسية وبلاك ووتر الأميركية كانت الأكثر شهرةً منذ حرب أفغانستان إلى العراق ومؤخراً أوكرانيا، إنهم ما أطلق عليهم «المرتزقة» وعرفهم البرتوكول الأول الملحق باتفاقية جنيف أنهم: «مجموعة أشخاص يجندون محلياً أو في الخارج، يقاتلون في نزاع مسلح لتحقيق مكسب شخصي، فهم ليسوا أطراف نزاع ولا أعضاء في جماعة نظاميَّة».
في كتابه «الأمير» الذي يعتبر مرجعية القادة والسياسيين حتى الوقت الراهن، حذرّ مكيافيللي من الاعتماد على المرتزقة لأن «هذه القوات كثيراً ما تكون مجزأة، وطموحة، ولا تعرف النظام، ولا تحفظ العهود والمواثيق»، فهي برأيه «قوات غير مجدية، بل ينطوي وجودها على الخطورة، والأمير الذي يعتمد على مثل هذه القوات، قد يؤجل دماره المحتوم، إذا تأجل الهجوم الذي سيتعرض له»، ويمكن للمتابع لمسار تلك القوات ماضياً وراهناً أن يلاحظ صحة ما أشار إليه صاحب الأمير، وليس بعيداً عن ذلك ما قامت به قوات فاغنر من تمرد ومحاولتها الانقلاب على السلطات الروسية في موسكو.
ظهرت الشركات الأمنية الخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنّ وجود قوات رديفة للجيوش النظامية وهي ما أطلق عليه «المرتزقة» يعود إلى آلاف السنين عبر التاريخ البشري، فقد بين اكتشاف «رسائل العمارنة» عن وجود المرتزقة في مصر القديمة حوالي العام 2500 ق.م، بينما اعتمدت الإمبراطورية الرومانية على فرق من المرتزقة ستكون أحد أسباب سقوطها مع عزوف مواطنيها عن الالتحاق بالجيش والقتال في صفوفه، وبرزت العديد من الأسماء والمجموعات المرتزقة في النص الثاني من القرن العشرين من أبرزها الفرنسي «بوب دينار»، الذي عمل لصالح الدول الاستعمارية في إفريقيا، والاستخبارات الأميركية والبريطانية أثناء الحرب الباردة، كما خدم في إيران زمن الشاه، إلا أنّ الظهور الأشهر للشركات الأمنية سيكون بعد احتلال أفغانستان والعراق، حيث عملت على حماية الشخصيات والمنشآت المدنيَّة والعسكريَّة مقابل مبالغ مالية طائلة قدرت بمليارات الدولارات.
تواجه الدول التي تعتمد على تلك الفصائل والمجموعات والقوات الرديفة مأزقاً جديداً بعد انتهاء الصراع أو الحرب أو الاقتتال، ففي محاولتها لضبطها والسيطرة عليها والحد من نفوذها تضطر لخوض معارك أخرى ضد مجموعات اعتادت حمل السلاح وعدم تلقي الأوامر، فضلاً عن الفوائد المادية التي حصلت عليها أثناء مشاركتها في القتال من مصادر عديدة، ما يجعل إخضاعها ونزع سلاحها أمراً بالغ الصعوبة، وهو ما يشكل تهديداً إضافياً للدول، لجأت بعضها لوضع تلك القوات تحت جناحها بطرق مختلفة، على سبيل المثال وبعد تمرد فاغنر ومقتل قائدها لاحقاً، عمدت السلطات الروسية إلى ضم تلك القوات إلى صفوف الجيش تفادياً لتمرد آخر، من خلال إصدار الأمر لمقاتلي مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة بالتوقيع على قسم الولاء للدولة الروسية، في محاولة منها لإخضاعها والسيطرة
 عليها.
لا يحضر الوطن في أذهان أو قلوب أولئك المنتسبين إلى الشركات الأمنية الخاصة، ولا يشعرون بالولاء والانتماء إلا للمال الذي يحصلون عليه، والذي سيؤمن لهم حياة كريمة في حال خرجوا سالمين من المعارك، ويبدو أنّ تلك الشركات باقية وتتكاثر في غير بلد حول العالم، وتستقطب آلاف الشبان الذين يعزفون عن الانتساب إلى الجيوش النظاميَّة التي لا تدفع رواتب كافية إلى جنودها، المقلق في الأمر أنّ تلك الشركات تقتات على الأزمات والفوضى والحروب، فهي لا تريد للصراع أن ينتهي أبداً، وهنا مكمن الخطورة حين تعمد إلى تأجيج الصراع وعدم حسم المعارك.