السيرة الذاتية والتاريخ

ثقافة 2019/05/07
...

ياسين النصير
 
 
حَفلَ مهرجان كلاويز لهذا العام ( 18-20)حزيران بمحور مهم من محاور العلاقة بين الثقافة والتاريخ عبر السيرة الذاتية، وكانت المشاركة نوعية بحيث تغلغلت البحوث في مجالات عديدة من مفاهيم السيرة الذاتية، التي لم تعد بمفهومات مستقرة خاصة  بعد منتصف القرن العشرين، حيث أصبح دور المؤلف فيها ثانويا، في كتابة التاريخ، ليتولى المجتمع وخاصة هوامشه المساهمة بهذا الدور المختفي وراء المهيمنات. ومن يستقرئ مسيرة الكتابة السيرية، منذ اعترافات جان جاك روسو واعترافات أوغسطين يجدها كما اشار الروائي علي بدر إلى انها شكل من أشكال البحث عن الراحة النفسية للذات،لأن مبدأ الاعتراف هو مبدأ ديني وليس مبدءا اجتماعيًا إلا بدلالاته، لذلك تعتبر السيرة الذاتية وعلاقتها بالتاريخ جزءا من التطهير «الكيثارسس» اليوناني ، وبموجبه يكون الإنسان المذنب نقيا من ذنوبه، إلا أن تطورا ملفتا للنظر حدث بعد ذلك، وهو أن مبدأ الاعتراف يخص تطورات المجتمع المدني أيضا، وليس الأفراد فقط، وبما ان هذا المجتمع يحتاج الى بنية الحرية واحترام الآخر واعتماد جدلية الافكار والفهم العقلي لمبدأ الإنسان، لابد له من نقد مؤسساتي ذاتي كي يبني نفسه على اسس اكثر وضوحًا.
نجد أن مثل هذا التصور للإعتراف لم يكن في صلب الثقافة الإسلامية، لا على مستوى الفرد ولا على مستوى المؤسسات ،فمثل هذا الاعتراف غير مصرح به بل يوجد مبدأ الغفران من الذنوب، وهذا مسلك آخر لا يخص السيرة الذاتية، ولا التطهير من الذنوب ولا تغيير مسار خاطئ.
التطور الثالث الذي حدث للسيرة الذاتية وعلاقتها بالتاريخ يوضحه سلفرمان في كتابة “ نصيات” ويطرح مجموعة من المبادئ الحديثة التي هي وليدة ثقافة القرن العشرين بتفاصيله وتحولاته والمديات التي اشتغلت عليها العلاقة بين الذات وحياتها.
في هذا المجال المنفتح على الحياة اليومية، نجد السيرة ببنية مختلفة عن اي نشاط ذاتي، فهي ليست مذكرات عن حدث، وليست يوميات عن واقع نمر به فنكتب عنه انطباعات، وليست سيرة مؤلفات ونشريات ومشاركات في مؤتمرات واصدارات كتب وتواريخ افعال، كما أنها ليست شهادات عن منجز او تاريخ شخصي أو تفاعل اجتماعي مع مجموعات أخرى، أنها تكوين متَضمن في موضوع، وهذا يعني انها جزء من بنية الموضوع  ، يمثل الدور الشخصي للمؤلف، ويكون هذا الدور مختفيا وراء الشخص والاحداث والاسلوب، ولذلك عندما تقول انها سيرة ذاتية عليك ان تبحث عنها في انتاج الأديب او السياسي أو المفكر  في مواقفه وانتاجاته وأفعاله، وليست في اجنداته اليومية وتواريخها.
 وهناك امثلة كثيرة لهذه التشكيلة من السيرة  مثل: سيرة نيتشه هي كتابه “ماهو الإنسان”، وسيرة سارتر هي كتابه “ما الأدب”،وسيرة اوغسطين هي “الاعترافات”، وسيرة هايدغر هي البوم الصور الشخصية، وسيرة هوثرن ويلدن هي عيشه في الجزيرة لمدة ثلاث سنوات وثلاثة اشهر وثلاثة ايام وثلاث ساعات. السيرة هي العمل ضمن المشروع، وهي البنية المتغلغة في التركيب الفكري والفني للنص، هي الطاقة المحركة والمولدة للإختيار، وهي بعد ذلك النافذة التي يطل النص منها على التاريخ.
ما نلاحظه لدى الكتاب هو أن يضع اسمه ودوره ملصقا في تاريخ وحركة مدينة ثم يقول عن نفسه انه يكتب سيرتها،لابأس من ان يكون المؤلف حاضرا في تاريخ المدينة، ولكنه ليس صانعًا لهذا التاريخ، ولا هو فاعلا فيه، بل أن حضوره مجرد ان يمشي في شوارعها ويتلفت علّه يلحظ فتاة ليقول انها صديقتي، هذا النوع من الكتابة المجانية دليل فقر قاتل في المخيلة وعدم فهم لآليات الكتابة التي لم يكن إلا مشاركا في هوامشها المعتمة. 
بعض الكتاب لايملك أي تاريخ له قيمه،ولكنه يختار موضوعا فيحشر نفسه فيه ويكتب كما لو كان هو صانعه، مثل هذه لا تسمى سيرة ذاتية ولا تقترب من التاريخ، بقدر ما تكون تنفيسا عن تورم ذاتي لا يعرف 
الطريق.
في أدبنا العراقي نجد ثمة كتاب قد وعوا أهمية ان يكونوا ضمن مشروعهم الخاص، فغائب طعمة فرمان تقرأ سيرته في رواياته،مبثوثة بموضوعية متدرجة من النخلة والجيران حتى المركب. 
وتجد سيرة فؤاد التكرلي في الرجع البعيد والأوجاع والمسرات،وقد تلبست شخصياته واحداث رواياته واسلوبه، وتجد سيرة محمد خضير الذاتية متعلقة بل ومندمجة في البصرة مكانا وتراثا ووعيا اركولوجيا بحيث تقرأ المدينة وتقرأ شخصياتها واحداثها وهي تكتب سيرة قاص وعى أن الموضوع هو من يتضمن 
السيرة. 
ولقد وضع مؤتمر السيرة الذاتية والتاريخ اصبعه على اكثر من موضع غير واضح في ميدان الكتابة والتصور. نجد سيرة الشاعر شيركو بيكه س في قصائده حيث يتناوب الرؤية بين واقعه وحضوره كشخصية ولغة تشترك بين الاثنين في رؤيتهما، ولنا في سيرة مناضل طريقة لمتابعة احداث يكون مشاركا فيها دون ان يعين ذلك بضمير ذاتي،كما في كتاب ملابختيار.
لايكتب التاريخ بطريقة واحدة،فلكل حدث زوايا مختلفة لرؤيته على حقيقته، والسيرة الذاتية وعلاقتها بالتاريخ العام توضح جانبا من التاريخ، وعلى من يعتمد السيرة ميدانا لرؤيته، عليه ان يفكر بـ”الكيفية” التي تكونت فيها،لا بـ “لماذا” 
يكتبها.