نوزاد حسن
في واحدٍ من تعليقاته العفويَّة قال لي ابني الصغير المشاغب: بابا كافي تاكل خبز شعير. قلت له: ليش. فقال: لأن لونك راح يصير أسمر. تعلم تاكل صمون أبيض. سألته: ليش قال علمود تصير أبيض مثلي.
هذا الحوار القصير المشحون ببراءة الصغار التي أجد فيها عالماً لا يمكن اكتشافه أعادتني الى فترة كنت فيها أحلم بعراق جديد سيراه العالم. نعم أعادني كلام ابني الصغير الى ما قبل سقوط النظام السابق أيام كانت التحضيرات للحرب تجري بلا توقف. آنذاك بدأت أحلم كما حلم جبرا قبلي على طريقته بأنَّ النظام سيزول وستتغير كل الأشياء.
كنت أفكر بأنَّ أول تطور سأشاهده سيكون في أسلوب العمارة وبناء البيوت وتخطيط الساحات، وظننت لأنني رومانسي عتيق بأنَّ الجميع سيعملون بهمة خلية النحل. سنكون جميعاً يداً واحدة تعمل بلا انقطاع. وعندها سنكتشف قوة البناء في داخلنا. كنت أفكر هكذا وكان لدي سبب مقنع كي أكون متفائلا الى هذا الحد، فكل القوى التي عارضت صدام حسين ستأتي الى البلد بعد تغيير نظامه ولا يمكن أن يكون هناك أي نزاع أو خلاف بينها، ستأتي قوى المعارضة للبناء وتخليصنا من كبت دام طويلاً. باختصار كنت أعيش في عالم وردي لأنَّ دور المونولوغ الشخصي سينتهي ليحل محله دور الحوار مع الآخرين وهذا أهم ما أنتظر إنجازه.
تحدثت مع نفسي طويلاً عن التطور الذي سنصل إليه ذلك لأنَّ الألم والغربة والنضال السياسي تعلم الإنسان كل شيء. وأول هذه الأشياء التضحية بمصلحته من أجل الآخرين، وهذه هي حال معارضي صدام الذين غادروا البلد الى المنافي.
فكرت اننا سنكون بلا وصاية من أحد، سنقرأ ما نشاء, ونشاهد ما نشاء, ونكتب ما نشاء ولم أكن أظن أنَّ زاوية واحدة من البلد ستعاني من الإهمال. ستقلب رياح التغيير كل شيء سريعاً لأنَّ الإرادة حين تتفجر لن يوقفها أحد.
لقد وصلت الى سدرة منتهى جميع الأحلام حين قلت لنفسي إنَّ الحكومة التي ستأتي بعد التغيير ستتدخل حتى في نظام غذائنا. ستعلمنا كيف نستبدل عاداتنا السيئة المضرة في الأكل، وأهم شيء ستفعله لنا هو تعليمنا كيف نتناول خبز الشعير لأنه صحي ومفيد. وستبالغ الحكومة في حثنا على تناول كيك الشعير المخلوط مع الكشمش الذي يقدم مع عصير المانغو اللذيذ. تخيلت لائحة الطعام التي سنتدرب عليها ونتعود عليها بمرور الوقت. أهم عناصر هذه اللائحة خبز الشعير مع قانون لا يفرط بحقوق أحد.
كنت في عالم آخر وأنتظر لحظة تحقيق جميع الأحلام. القانون الذي يشبه قانون المجموعة الشمسية الذي لا يجامل أحداً. وقانون صارم لتعليمنا فن الصحة من خلال أرغفة الشعير برائحتها وطعمها المميز. وأكواب المانغو الباردة. اعتقدت أننا سنعبر كل عقبات الخلاف لنصل الى عالم آخر يختلفُ عن عالمنا الذي دمرته الحروب. ويبدو أننا ما زلنا ننتظر لتحقيق كل ما كنا نحلم به.
في الواقع فتح تعليق ابني باب خيالي لقول كل ما قلت.. إنه حلم يقظة.