نحو تجديد وإصلاح العمل الحزبي في العراق

آراء 2023/10/02
...

إبراهيم العبادي

يتطلع العراقيون إلى بناء دولة بقوام ديمقراطي تعددي، وبشرعيَّة دستوريَّة ونظام حكم تداولي، وسلطات قادرة على بناء السياسات العامة وتنفيذها بما يحقق مطامح وآمال الجمهور التائق إلى العدالة والتنمية، بعد التغيير السياسي الذي حصل عام 2003، تحققت الخطوات الاولى لبناء الشرعيَّة الدستورية للنظام السياسي واعادة مأسسة الدولة على اسسس الفيدرالية والتعددية الحزبيَّة والمشاركة الواسعة في السلطة رغم العيوب الكبيرة،

لكن عشرين عاما من التجربة السياسيَّة كشفت ضعف البنية السياسيَّة في البلاد، بسبب هشاشة البنى الحزبيَّة، وتخلف الثقافة السياسيَّة وارتكاس المجتمع إلى بنى ما قبل الدولة الحديثة، وشيوع نزعة التغالب والتغانم والعطش الشديد للسلطة، والاستقواء بأموال الدولة ومؤسساتها، ما زاد الطين بلة هو الصراع السياسي بين الأقطاب، التي تتزعم المشهد السياسي بدوافع قوميَّة وطائفيَّة وجهويَّة وعشائريَّة، والتغلغل العميق لثقافة الصراع الفكري والأيديولوجي لدى قطاع واسع من العراقيين.
مرَّ العرب ودول المشرق عموما بمرحلة تأسيسيَّة على أنقاض حكم السلطنات، لا سيما الحكم الطويل للسلطنة العثمانيَّة، ثم اقتبست الدول القومية والقطرية الجديدة التي أقيمت على أنقاض السلطنة وبرعاية استعماريَّة، أنظمة سياسيَّة تحاكي تجارب دول الغرب، دونما تجديد في البنى الاجتماعية والنظم الاقتصادية وأنماط الفكر والسلوك، إلا ببطء شديد، وأحيانا بالعنف والقسوة والإجراءات السلطويَّة، واشتد الصراع الفكري في البلاد المستعمرة بتعبير المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي، وانقسمت القوى السياسيَّة بين تيارات قوميَّة وماركسيَّة واشتراكيَّة وأخرى ليبراليَّة تقليدية وجديدة، وقوى محافظة إسلامية أو إسلامية إصلاحية أو محافظة تقليدية، ولا تزال الأفكار وعالم المثل يسيطر على الكثير من القوى السياسيَّة، فالأولويَّة عندها للأفكار لا المؤسسة الدولتيَّة القادرة على تنمية البلاد، وحماية أمنها واستقرارها وازدهارها معرفيا وثقافيا وتقنيا، مع سياسات ثقافية ورمزية تصنع هوية حديثة جامعة لقيم الأمة وتراثها وعصرانيتها بهدوء وتعقل.
نمت الدول وازدهرت الديمقراطيات وتحققت الحريات بالعقلانية السياسيَّة، التي تتيح نمو الطبقة الوسطى، وتوازن انماط التنمية السياسيَّة والاقتصادية، وادارة ناجحة للسياسات والعلاقات الخارجية التي تضمن المصالح الحقيقية للبلاد وشعبها، وليس بالمثل الافلاطونية التي نادت بها الأيديولوجيات المتصارعة في عمق المجتمع.
حينما انهارت دولة الحزب الواحد ونظام الاستبداد وحكم العشيرة أو العشائر المتحالفة، ظهرت كل مساوئ ثقافة الحكم الاستبدادي كما تجلى في سلوك الطبقة السياسيَّة والجمهور العام على حد سواء، فالعقلانية والمصلحة والهدوء والتعلم من التجارب أمورٌ غائبة، والحاضر هو الانفعال والهيجان والعقل المؤامراتي الشكاك المتربص مع انعدام للثقة واحتكار للشرف والوطنية واحتراب أيديولوجي عميق، بين قوى تنادي بالتحرير والثورية والثأر من الغرب وزعيمته الولايات المتحدة، وقوى تريد اقامة نظام اسلامي، وقوى تعارض الأصولية الدينية، واخرى ليبرالية أو وطنية تخشى من هيمنة تيارات متشددة على السلطة، وهكذا ازدحم العراق بعناوين حركية ومنظمات وفصائل وأحزاب جديدة، اصطفت إلى جانب الاحزاب التاريخية القائمة، ودخل الجميع في سباق محموم على السلطة، واعيدت إلى الواجهة صراعات اليمين واليسار، الاسلام والعلمانية، المدنية واللامدنية، المقاومة المسلحة والمقاومة الناعمة. خط أمريكي في مقابل خط ايراني، وطنيون في مقابل أمميين، وليس غريبا على بيئة معروفة تاريخيا واجتماعيا رمزها التاريخي مجتمع الكوفة المنتج والمنفعل بالافكار والشعارات، ألا تدخل في صراع حزبي على خلفية فكرية أو سياسية، فينقسم الناس بعواطفهم ومشاعرهم قبل أفكارهم ومداركهم وعقولهم. الدولة في العراق مأزومة، والمجتمع لا يزال يعيش اضطرابا واسعا، وهو تائه بين الثنائيات المتعارضة، والأحزاب تساهم في تعميق التيه السياسي، بسبب الاختلاف الفاحش في الأولويات والثقافة السياسيَّة والأهداف التي تسعى اليها. يجمع خبراء السياسة أن الدولة العراقيَّة لن تحقق أهدافها ما لم يتم اصلاح النظام السياسي ذو العيوب، التي تمنع الاستقرار والهدوء، ومفتاح الاصلاح السياسي هو اصلاح البنية الحزبيَّة في البلاد، واعادة بناء الاحزاب وفق مقتضيات الدولة والهوية الوطنية، ولتحقيق أهداف التنمية الوطنية في مجالاتها الأوسع. والمهمة الأصعب هي الانتقال من أحزاب الأفكار والشعارات الكبرى إلى أحزاب البرامج التنمويَّة والسياسات البنائيَّة والقطيعة مع تاريخ مفعم بالحماسة والهراء الثوري بلا منجز حقيقي.
لا بديل عن الانتقال من حكم الأوليغارشيا الراهنة، أو بتعبير الباحث الانثروبولوجي علاء حميد حكم الرعاة الكبار، إلى حكم التنظيمات التمثيليَّة والأحزاب التنمويَّة البرامجيَّة، وليس أحزاب الأيديولوجيات المتصارعة، صراعا وجوديا حد الموت، أمام الإسلاميين تجربة إسلاميي تركيا ونموذج حزب العدالة والتنمية، الذي جعل التنمية الاقتصاديَّة والبناء المادي مدخلًا للتغيير الاجتماعي والإصلاح الثقافي والبناء القيمي، ولم ينشغل بمصارعة العلمانية المهيمنة والدخول في صراع متعدد الجبهات، مع علمانيي الداخل، ومع الغرب وضغوطه ومع العسكر ومؤسساته، باعتباره الضامن للعلمانية المتشددة، وجاءت الحصيلة مستجيبةً إلى حدٍ كبيرٍ مع استحقاقات مرحلة ما بعد الإسلاموية، حيث الانجاز التنموي هو المدخل للإصلاحات المنهجية الأخرى، وأمام المقاومين تجارب مرحلة التحرر الوطني في بلدان عديدة، والتي كشفت أن معركة السلم وبناء الدولة أصعب بكثير من مرحلة حمل السلاح والتحول إلى العمل السياسي ببرامج تنمويَّة وفكر دولة، وليس فكر منظمات سرية وستراتيجية اضرب واهرب)، ثم الانغمار وسط الجمهور وتحميله كلفةً باهظةً من الحصارات والعقوبات والفقر والتخلف الاجتماعي والاقتصادي والتدهور الأخلاقي والمعرفي.
أمام القوميين والشيوعيين فسحة صغيرة للتحول إلى أحزاب وطنية بأولويات جديدة، قبل أن يسدل الستار على أحزاب استنفدت طاقتها على اجتذاب محازبين وسط جيل العولمة المبتعد عن فكر اليسار الثوري والأحلام الكبرى!!.
أحزاب العراق القديمة والجديدة مطالبة بتجديد بناها التنظيميَّة ومطابقة نفسها مع الاشتراطات المؤسسيَّة للأحزاب العصريَّة وبفكرٍ جديدٍ وديناميكيَّة اجتماعيَّة وجيل مسؤول خاضع للمساءلة ومؤمن بحتمية التغيير والتداولية والديمقراطية، لتجد لها مكانًا في النظام الاجتماعي والسياسي السائر نحو التحول والتغيير بحكم الضرورة السياسيَّة، التي يتطلبها الاستقرار وتفرضها التنمية المستدامة والتحديات الناشئة منها.