نرمين المفتي
إن تمكنت الذاكرة العراقية أن تتناسى الفواجع التي تسبب بها الفساد، فلن تتمكن من نسيان شهداء وجرحى مجمع الليث، الذي استهدفه ارهابيون ظلاميون لا يخافون الله، لكننا عرفنا في ما بعد بالتحقيقات إن ارتفاع عدد الشهداء كان عدم وجود سلالم للحريق، أي منحت إجازة بنائه بالفساد.. ولم تتمكن هذه الذاكرة من نسيان ضحايا مستشفى ابن الخطيب، بغداد ومستشفى الحسين/ الناصرية ومرة أخرى ارتفع عدد الضحايا بسبب عدم وجود شروط الأمان والسلامة.. وارتفاع عدد ضحايا فاجعة الحمدانية في عدم توفر شروط الأمان والسلامة.. اذن، كيف استمر في العمل؟ ببساطة، سيكون الجواب، أما في الفساد أو في الإهمال، أو في الاثنين معا. فهذه القاعات، يفترض أنها تتعرض لحملات تفتيش من الدفاع المدني ومسؤولي السياحة والذين يسجلون ملاحظاتهم بالنواقص، ومن ثم ينذرون صاحب المنشأة ان كانت قاعة أو غيرها، لكن في عدم الإذعان للإنذار وتنفيذ شروط السلامة، رائحة فساد قوية من جهة وأخرى الإهمال لعدم إنزال العقوبة بصاحبها وغلق القاعة، خاصة أن ضابطًا من الدفاع المدني وفي اتصال مع (الجزيرة) أكد عدم توفر معايير السلامة والأمان في القاعة، وتم إبلاغ صاحبها بتحسين هذه المعايير! في اليوم التالي للفاجعة ومع الإشارة إلى أسبابها، أشارت الجهات المختصة إلى أنَّ النتائج الاولية تقول بأنها حدث (عرضي) وليست جناية، كتبت معترضة وتساءلت أليس الفساد جريمة وننعته بالإرهاب الداخلي، بمعنى أنها جناية فوق الكبرى، إن صح التعبير؟ وأليس غض الجهات المختصة بمحاسبة المخالفين جريمة ايضا ومع سبق الإصرار والترصد؟
لكل فاجعة فساد أسبابها، قد لا تظهر للعيان، لكن فساد فواجع الحرائق واضحة للعيان. وإن لم نسمع بإنزال العقوبة للمتسببين في المرّات السابقة، هذه المرة أوصت اللجنة التحقيقيَّة التابعة لوزارة الداخلية بإعفاء مسؤولين في قضاء الحمدانية ومحافظة نينوى من مناصبهم، لكن لا يوجد في تقرير اللجنة اية إشارة إلى الجهة الهندسية، التي صممت القاعة بدون وسائل الأمان والسلامة! واستنادا إلى السلطات المختصة، فإن قطعة الأرض التي بنيت عليها القاعة (متجاوز عليها)، وبقربها تماما برج كهرباء ضغط عالٍ!! ربما كانت القطعة من محرمات وزارة الكهرباء مثلها مثل آلاف البيوت، وبينها مساجد وقاعات واسواق، بنيت على قطع أراضٍ بالتجاوز، ومن بينها محرمات وزارتي النفط والدفاع، وفي العديد من المحافظات.. و( بحرارة صواب) اهالي الضحايا، بدأ الاستغلال السياسي لهذه الفاجعة، خاصة ان الانتخابات المحلية أصبحت قريبة، وبرغم وجعهم، فإنَّ أهالي الضحايا لم يسمحوا لهم وطردوهم من مجالس العزاء، التي أقيمت.. وبسبب الانتخابات ايضا، بدأ التراشق بين هذه الجهة وتلك، وكالعادة، قامت الفضائيات المؤدلجة بصب الزيت على النار، وكان المطران مار بنديكتوس يونان حنو، رئيس اساقفة ابرشية الموصل للسريان الكاثوليك، واضحا جدا، وهو يلوم هؤلاء السياسيين الذين “لم يحترموا جراحات هذا الشعب”، وقال في حوار تلفزيوني بأن الفاجعة أثبتت بأن العراقيين كلهم أخوة، وأنهم وقفوا وقفة رجل واحد منذ اللحظة الأولى للفاجعة، وأضاف أن جرحهم لا يزال طريا وبدأ “ تراشق السياسيين واتهاماتهم لبعضهم البعض”، واضاف بأنه يوجه كلامه “للأحزاب السياسية قاطبة بدون اية مسميات أو توجهات” مطالبا أياهم بدلا من هذا التراشق و”الاقتتال على المناصب” محاسبة الفساد والنظر إلى عدد المدارس والمستشفيات والقاعات، وغيرها من المنشآت المبنية من ( الساندويج بنل)، الذي كان السبب الأساسي في فاجعة الحمدانية.
ولفت انتباهي أهالي الضحايا في أمرين مهمين جدا، أولهما أنهم أثناء أحاديثهم الموجعة أكدوا أن فاجعتهم فاجعة العراقيين كلهم، وأسكتوا بعض المأجورين، الذين حاولوا جعل الفاجعة (طائفية)، وأن أخوتنا في الله والوطن المسيحيين مستهدفون وسيبدؤون موجة هجرة جديدة! وثانيهما، إشارة بعضهم إلى أن التعويض المادي لن يعوضهم عمن رحلوا. وهنا اتساءل أليس من المفروض أن يُحكم صاحب القاعة، الذي أكد أهالي الضحايا طمعه المادي، أن يدفع لهم تعويضات مجزية حتى لو اضطر إلى بيع كل أملاكه؟ وملاحظة مهمة وهي أن تعي الجهات المختصة أن دفع الأموال، سواء في هذه الفاجعة التي نأمل أن تكون الأخيرة وغيرها من الفواجع التي سبقتها، لن تتمكن من إسكات أهالي الضحايا عن المطالبة بمحاسبة الفاسدين والباحثين عن الثراء، والذين لا يشبعون أبدا، مهما كانت الأضرار والفواجع، التي يتسببون بها للعراقيين بمختلف أثنيناتهم ودياناتهم ومذاهبهم.