نستقي من الردى أو نبيد

آراء 2023/10/10
...

علي رياض

في العراق يتفق العراقيون سراً على استبدال الربيع بالخريف، فالربيع العراقي يبدأ بنهاية الصيف، كالعيد الذي يتبع رمضان، ولمدة أسابيع قليلة قبل دخول الشتاء رسميا إلى دوره في تعاقب الفصول، الربيع العراقي يأتي في تشرين الثاني عادة، وعزز الحراك الجماهيري في الأول والـ 25 من تشرين الأول عام 2019 من العلاقة الأثيرة بين العراقيين وهذا الشهر، كما ترسخ أكثر، باعتماد الثالث منه عيداً وطنياً للعراق، لا يفرق بين فئاته بقدر أنملة، يستذكر استقلال البلاد ورفع علمها لأول مرة للعرب في عصبة الأمم.
كان الرابع من تشرين هذا العام غائماً ومقترنا بزخات مطر خفيفة، بمصادفة غريبة لم تشهد الاختناقات المرورية ضجيج الأبواق المعتاد، وكانت الشوارع رغم حب الناس لانقلاب الطقس مكسوة بوجوه مختنقة، كان عيد البلاد قبل هذا الصباح بليلة، والحفل كان واسعاً ومزخرفاً بحضور نجوم عرب كبار، والألعاب النارية أطلقت سلسلة شائعات حول حدث أمني في المنطقة الخضراء من شدة صوتها، فماذا يريد العراقي الكئيب ليفرح، وربما هذه صورة لحدث مكرر، لكن مع الاعتذار من السيد كارل ماركس، لم يكن تكرار التاريخ هذه المرة مأساويًّا في مرته الأولى، تجاوز هذه المرحلة وقفز مباشرة إلى
المهزلة.
عام 1930 كان نوري باشا السعيد على رأس الفريق العراقي المفاوض مع بريطانيا، لتعديل اتفاقية عام 1926، من أجل حصول العراق على الاستقلال، ورغم نجاحه باقناع بريطانيا العظمى (الدولة المنتدبة للعراق) بإنهاء الانتداب وفسح الطريق أمام العراق للانضمام إلى عصبة الأمم بعد ذلك بعامين، قامت حركة احتجاجية كبيرة ضد بنود المعاهدة الجديدة، كونها تضمن مصالح بريطانيا في العراق، لمدة 25 سنة بعد الاستقلال، رغم أن ذلك سيجعل العراق البلد الأول عربياً لدخول عصبة الأمم، والعضو رقم 57 من بين دول العالم. كان سقف طموح الشباب حينها عاليا، حتى الريادة والطليعية لم تكن كافية لتحقيق الرضا في صدورهم، كانوا يرون العراق أعلى من أعلى الطموحات.
بعد مرور 91 عاماً على انضمام العراق إلى العصبة واستقلاله، نُظم الحفل في ساحة الاحتفالات، وحضر المدعوون بالدعوات الخاصة من الفنانين والإعلاميين والمشاهير ذوي الاختصاص والمشاهير بلا اختصاص، وكان النشيد الوطني حاضراً بحنجرة عرابة الاحتفال المطربة الفائزة ببرنامج ستار أكاديمي شذى حسون، لتمسخ نصف أبيات النشيد الوطني بما يمنع احترامنا لنشيد البلاد الوطني استغراقنا بالتفاصيل، حتى تنتبه حسون إلى عجزها على تذكر الكلمات، فتطلب من الجمهور الذي كان -رغم جدلية شخوصه- صامتاً باحترام للنشيد، أن يشاركها الغناء لتسرق منهم شطراً واحداً تغنيه بطريقة صحيحة، حتى ظننا نحن من انفجرت أكبادنا وانسحقت قلوبنا أنها ستدعو أحدا للرقص، لكن ولله الحمد اختارت أن تضحك بصفاقة وسط النشيد بدلاً من
ذلك.
في الثالث من تشرين عام 2019، كان النشيد الوطني حاضراً أيضاً في ساحة التحرير، مصحوباً بالدمع والبكاء والدم، وكان باقي الشعب في بيوتهم يذرفون ذات الدمع على ذات النشيد، رغم أن النشيد مستعارٌ من فلسطين، لكنه كان بمصادفة أو إرادة ماكرة، خياراً ذكياً بربط أوجاع العراق بفلسطين وبغداد بالقدس، والوقوف عند المقطع الذي ينص على:
الشباب لن يكل
همه أن يستقل
أو يبيد
نستقي من الردى
أو نكون للعدا
كالعبيد
ليكون وعداً وأمانة في رقاب أبناء العراق وفلسطين، وعداً وضعه العراقيون عام 2019 موضع التنفيذ، حين استقوا من الردى دون الاستعباد رغم فشل المسعى، وعداً يسقط دمع العراقيين حين يسمعونه، ويطلق ضحك ال.... حين بدلاً من إنشاده بخشوع يغنونه.