الكاتب والعزلة

ثقافة 2019/05/08
...

ابتهال بليبل
 
 
تبدو فكرة العزلة في زماننا هذا بالغة التعقيد.
فالكتابة، قد تتحوّل –أحياناً- ضدّ ذاتك، عندما تستبعد رغبتك بالصمت العلني، وتمضي في مشاركات مقلقة من انتهاك لإمكانات الروح والعقل.. هذا الانتهاك الذي يتماشى مع المعيار الاجتماعي والسياسي وغيرهما من معايير شكلّتنا بهُويات ثقافية مراوغة، وربّما متطرفة. 
لقد زعم المثقفون دائماً أن العزلة هي في الحقيقة ضمن عمل الكتابة، وأن التفاعل مع ما تكتبه يبدأ بالعزلةـ لكنها لا تعد فعلاً سلبياً برغم ذلك، فالعزلة في الكتابة ليست نذيراً للشعور بالوحدة.
ولأن الأنا بدائية – كما يقول نيقولا برديائف، ولا يمكن أن تستمد من شيء أو ترد إلى شيء- لذا، وفق رأيي، فإن عزلتك تبدأ بنسخ سلسلة من الأحداث والمشاهد وحتى الأصوات والوجوه، وكأنها إشارات بدت مصطنعة ومعطلة بمرور الوقت، حتى تكتشف خروجك من الواقع، لإن العزلة –بالأساس- تدعم الخروج عن الواقع، وتبدل سمة الأفكار ومعانيها لديك، بوصفك – حاوية- لما يحدث، ومهمتك إيصال هذه الأحداث والمشاهد ولكن بعوالم جديدة، تعتمد على الإحساس بالمكان والوجود، وهو من الأمور التي تتأثر –عادة- بتراكمات من الخبرات والتجارب. 
وهنا تكون – بحسب نيقولا، محاط من كل الجوانب باللانهائية التي لا يمكن النفاذ منها، ولهذا فأنا أفكر، لأن الأنا موجودة أولا، وتنتمي إلى مجال الوجود، كما أن الوعي كامن فيها شأنه في ذلك شأن اللاوعي- ولكن، كيف للعزلة أن تؤثّر في الكتابة، دون الشعور بالوحدة؟ وقد تداخل كلا من التحليل النفسيّ، والحياة الاجتماعية والشخصية، والبيئة واستكشافاتها، فضلا عن مواقع التواصل الاجتماعي –فيسبوك، تويتر، فايبر- وكأنها قد تحطّمت وتحللّت بين الكاتب وكتاباته. 
المتعارف عليه، أن ثمة اختلافات في الكتابة من كاتب لآخر، بل في طبيعته وسلوكه، لكن عادة ما نرصد هذه الاختلافات من الخارج فقط.. أما الداخل – اقصد ما بداخل الكاتب- فهو معزول عنّا تقريبا، لا نُدركه بسهولة، ولكن قد تمنحنا الكتابة القليل منه، وتتصل بقطيعتنا مع نظامه الشخصي المعزول، ولولا هذا الاتصال لما كانت هناك ايحاءات ملموسة لدواخل هذا الكاتب أو ذاك. كما أن هذه المعرفة لا تنشأ إلا رغبة في الكتابة حتى لو كانت غامضة، تلك الكتابة التي تتشكل عند أقصى حد في التماهي مع الذات- وكي ينال الكاتب هذه القيمة أو المنزلة في الكتابة -فإنه هنا بحاجة لمرحلة ما من العزلة.  
 
الذات وغيابها
العزلة –عادة- تهتم بحياتنا الداخلية وأعماقنا، وتعمل على كشف الأحداث والذكريات المختلطة مع بعضها البعض والتي لا معنى لها -بنظرنا- ثم تظهرها بواقع جديد، هذا الواقع الذي يدعم الكاتب ويساعده – أحياناً- على اكتشاف حقيقة ذاته. 
ولكن هذه العزلة نسبية كما يقول – كير كجورد- كونها تمثل الجانب الإيجابي، عندما يكون الانفصال عن الواقع لا يكون إلا عن الروتين الاجتماعي اليومي للعالم، وهذا الانفصال بنظر – كجورد - مرحلة من مراحل نمو الإنسان الروحي.
وحينما تتجرد - الأنا- من العالم المألوف للحياة اليومية، تشتاق إلى وجود أكثر عمقاً وأشد أصالة، وتتردد بين عزلتها وبين المجتمع اليومي.  
يمكننا أن ننظر إلى الكاتب الفرنسي موريس بلانشو، على أن حياته وأفكاره -قد تعنينا هنا- إذ حاول بلانشو بناء فكرة مختلفة حول مفهوم الوجود. ونقض بشكل مباشرٍ ما يشاع حول الظهور وأهميته للذات، بل راح يستخدم المعنى الصوفي لأهمية العزلة داخل الكتابة. لذلك عبرت قصصه ورواياته بصراحة عن حياة خيالية تلامس الذات وغيابها. فحسب بلانشو، لا يوجد شيء وهذا –اللاشيء- يحمل في عدميته وجوداً أكثر.
عزلة- بلانشو- الظاهرة في كتاباته الأدبية تجسد فكراً فلسفيّاً، إنه يحاول بكل كتاباته أن يمحو نفسه، رغم أن الكتابة – بنظره- لا تثبت شيئاً، أو باستطاعتها أن يظهر الشيء الموجود بالفعل. 
بلانشو- الذي رحل عن ٩٥ عاماً، كانت حياته تشبه كتاباته، فكان رحيله بعد عزلة طويلة، وأيضا بعد أن أوضح في اصداره – أسئلة الكتابة- أن” الكتابة هي الموت... إن العمل الأدبي يعمل على تقريبنا من الموت، إنه يلقي بنا في ضفة لا يمكن لأي فكر أن يطرقها، إنه يقضي على ما لا يمكن التفكير 
فيه”. 
 
الجنون والوهم
ولكن الكتابة هي عملية وحيدة، حتى إذا كان الكاتب يتشارك بشكل منتظم مع غيره، إلاّ أنه عندما يبدأ بالكتابة بجدية لن يستطيع دون أن يكون لوحده.. وهنا يأتي دور الذات، وانعكاساتها التي قد تأخذنا لذات أخرى متأصلة في- الأنا- وهو يعتمد بالأساس على الوعي، وقدرة الكاتب على الالفة والاتصال، وبذلك يكون وجود الكاتب مع غيره مجرد سلطة خارجية.. من الممكن أن تكون عزلة الكاتب جزءا من وجوده وبمعنى أدق كتاباته التي لا يمكن أن تقترب منه إلاّ بالابتعاد عنما يحيطه، والاندماج مع تجربته الخاصة.
الحياة الواقعية بالنسبة للكتاب – قد لا تعكس بالضرورة- ذاته الحقيقة، ولكنها قد تندمج وتختلط بتجاربه الخاصة، ليكتشف عبر عزلته النسبية -الانا-
 الحقيقة. 
وهكذا نجد بالعزلة نشعر وكّأننا نعيش بعالم أخرى ومختلفة عن عالمنا الواقعي، وقد نجد أنفسنا بأدوار مختلفة لا تقترب بتاتاً من ادوارنا الشخصية في المجتمع. 
وبناء على ذلك فإن الكاتب الواعي بوحدته يفرض العزلة. وبالتالي، فإن الكتابة لا يمكنها الاستمرار بإبداع واختلاف بعيدا عن العزلة الذاتية، ولكن بشرط أن تعثر على – الأنا الاصلية-  ذلك أن – الأنا- إذا نظرنا إليها من حيث صعوبة الوصول إليها، قد لا تكون – عند الكثر من الكتاب- إلا عدما لا وجود له، إنها ليست حقيقة وربما خيالية. وبما أنها تكشف ما لا معنى له بتجاربنا، إذن قد ندخل من خلالها لمناطق الهلوسة والجنون، وهذا ليس شيئاً غريباً، فالكثير من الكتاب تم وصفهم بالجنون والخيال أو الوهم.. سلوكي هذا قد يختلف في ظاهره عما بداخلي، ولكن كتاباتي – حتماً- تتغذى على عزلتي النسبية التي هي كشفت – الأنا الاصلية- لذا فإن وجودي هذا سيكون له معنى وفعل عند الكتابة.