أ.د. عامر حسن فياض
لقد درجت الأدبيات الاجتماعيَّة والإنسانيَّة وضمنها السياسيَّة الغوص بحثاً في تصنيف الشخصيات القياديَّة، من حيث تحديد ماهيتها وأنواعها ومعايير تصنيفاتها الثنائيَّة والثلاثية والرباعية... إلى العشرية وما بعدها فقد كان (مام جلال) يتمتع ويندرج ضمن القادة، الذين يحملون كل إيجابية تضمنتها هذه الأنواع، فهو المرن غير الصلب وهو المنفتح غير المنغلق، وهو المتفاعل غير المنفعل، وهو العصري غير التقليدي، وهو التسووي غير التصفوي، وهو رجل دولة وسياسي، وليس سياسيُّا فقط.
أي نوعٍ من القادة كان جلال الطالباني؟ وما هي صفاته كرجل دولة؟ وما هي البصمات التي سجلها والآثار التي تركها؟. نعم (مام جلال) رجل دولة خرج من رحم الأفراد المواطنين، لا من الأفراد الأتباع، ولا من الأفراد الرعاية، أي خرج من رحم المواطنية... وتربى في رحم الجماعات العصرية (أحزابا ومؤسسات مجتمع مدني)، ومارس قيادة مؤسساتية شرعية منتخبة، حظيت بالمقبولية والرضا.
وهو مواطن وسياسي ورجل دولة عراقي ظل ينظر ويحرص إلى وعلى كرديته من بوابة العراق الواسعة، ولم ينظر إلى العراق من نافذة قوميته، لأن القومية عنده هوية حضارية ونشد أن تتعايش بسلام مع التنوعات القومية الأخرى في العراق المتنوع القوميات والأديان والمذاهب من جهة، كما حرص ونشد ترويض كل هذه التنوعات لصالح الوطنيَّة العراقيَّة، بوصفها هوية سياسيَّة لكل
العراقيين.
إن العراق ظل بحاجة إلى رمزيَّة شخصيَّة وطنية مثل (مام جلال)، طالما أن المؤسسات لم تصل إلى مستوى البديل عن الشخصية الرمزيَّة الوطنيَّة وقد عاش (مام جلال) ورحل في أزمان عراقيَّة بحاجة حتى يومنا هذا متطلعا إلى أن يكون بلد
مؤسسات.
ولما كانت الشخصيات الرمزيَّة القياديَّة تدرس وتقييم ضمن أطار بيئة أصغر حجمًا ووزناً من إطار البيئة الوطنيَّة فإن (مام جلال) يدرس ويقييم ضمن إطار بيئة وطنية عراقيَّة تتجاوز صفته قوميًّا كرديًّا، وصفته مسلما سنيًّا وصفته المناطقية الاجتماعيَّة القبلية والعشائرية.
وقد برز في هذه الوطنيَّة بوصفه زعيماً مخضرماً وملهماً وقانونياً عقلانياً، الأمر الذي يذكرنا بنظرية القيادة لعالم الاجتماع الألماني (ماكس ويبر)، التي قسمت الزعامة ثلاثيا ما بين التقليدية (المخضرمة) والكاريزمية (الملهمة) والقانونية (العقلانية
الممأسسة).
لقد عُرف (مام جلال) بالقدرة على كسب الأصدقاء وكسب أو تحييد خصومه وخصوم شركائه. وحرص على أن تدار كركوك بالتساوي بين العرب والكرد
والتركمان.
وضمن أطروحة الترميز السياسي، وفي حدود العلاقة بين القيادة والرمزيَّة، فإنَّ (مام جلال) تمتع بأولوية الرمزيَّة الوطنيَّة العراقيَّة والإقليمية والدولية ايضاً رافقتها رمزيات أخرى كرمزية القومية بين الكرد والرمزيَّة اليسارية بين اليسار والرمزيَّة الاشتراكية بين الاشتراكيين والرمزيَّة الديمقراطية بين
الديمقراطيين.
لقد قابلته خمس مرات وكان يوهب الراحة والطمأنينة والتفاؤل لمن يقابلهم، ولكن مرة واحد فقد سألته وسمعت منه جوابًا، لم أقتنع به حينها عندما عرضت على فخامته التدخل للاستعجال من قبل مجلس النواب بسن قانون الأحزاب السياسيَّة، وكانت إجابته حينها غير مقنعة عندي عندما قال (خلي الحال على ما هو عليه حاليا، لأن الكل أفراد وجماعات منظمة هم أحرار في تشكيل أو تأجيل تشكيل أحزاب سياسية)، واليوم وبحكم واقع حال الجيل الجديد المهووس بنهج الرفض للحزبية، لا بنهج البناء للتعددية السياسيَّة من جهة وبحكم تراجع جاذبية الأحزاب وبلوغ بريقها مرحلة الخفوت ما قبل الزوال من جهة أخرى، تبيّن أن إجابته حينها، وربما ما بعد حينها كانت واقعية، على الرغم من قناعتنا أن الحياة السياسيَّة لا تستقيم دون مبدأ التعددية السياسيَّة بشقيها التعددية الحزبية المنظمة وتعددية
الرأي.
أخيرا يدخل (مام جلال) ضمن قائمة السهل الممتنع في سجل رجال الدولة، وهو من القادة القلة الذين رحلوا بسلام ورضا ومقبولية دون قتل أو سحل أو طرد أو هروب أو محاسبة، لأنه كان رجلاً صالحاً سجل باقتدار وقدرة بصمات تستحق الذكر، وترك أثرًا لا يُنسى يجعلنا نتذكره
دوما.