مذكرات مدرسيَّة خاطفة

آراء 2023/10/11
...

  حسين الذكر


مطلع سبعينيات القرن المنصرم بلغت سنا يسمح لي بالتعليم.. فأخذني والدي - رحمه الله- إلى مدرسة المحمديَّة في مدينة الحرية، كانت عبارة عن بيت مستاجر وكنت أرتدي دشداشة (بازة) وحرص والدي تحليق رأسي (بالموس صفر).. وقد طلب منه المدير (مبلغ نصف دينار)، رسم التسجيل.. فرد والدي بسرعة: أنه كاسب بلا تقاعد ومعيل لأسرة من ثلاثة عشر شخصا.. فحاول المدير التخفيف عنه: ( يا حاج لا تعقدها خل الولد يتعلم.. هات ربع دينار.. وربع آخر بعد منتصف السنة ). فرفع والدي صوته عاليا : (ليس عندي ولا درهم). 

فتدخل أحد المعلمين (القديسين) وما أكثرهم آنذاك.. قائلا: (يا أستاذ خلاص سجل الولد.. وهذا ربع مني..) فرد المعاون: (والربع الآخر مني).. ! 

بعد شهرين انتقلت مدرستنا إلى بناية أخرى أحدث تتكون من ثلاث مدارس متجاورة على مساحة كبيرة بنتها الحكومة بأحدث طراز آنذاك، وتغير اسمها إلى مدرسة المصطفى.. كنت متفوقا والأول مكرر دائما لأن ابن المعلم هو الأول. 

احد المعلمين يدعى أستاذ إبراهيم متهما بالشيوعية وقد اعتقل بعد سنوات.. كان حريصا جدا على شراء ملابس من راتبه الشخصي، يوزعها بين الطلبة الفقراء وأنا منهم.. تحت عنوان القدوة أو الشاطر.. 

في مدرستي كانوا يعلموننا القراءة والكتابة التي تعلمناها عند نهاية الصف الأول، وأصبحنا نقرأ في الصف الثاني شعارات على جدران مدرستنا ما زالت راسخة في الضمير والوعي الاجتماعي: (عملك شرفك فمن لا يعمل لا شرف له).. (إزالة الأذى عن طريق المسلمين).. (من جد وجد ومن تعب لعب).. (العلم نور والجهل ظلام).. (قف للمعلم واوفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا ).. تخرج من مدرستي آلاف الأطباء والمهندسين والضباط والأدباء والصحفيين والاكاديميين والفنانين والرياضيين.. كلهم كانوا - كمعلميهم – قدوة في المجتمع سلوكًا وأداء..

قبل عشر سنوات مررت بمدرستي فوجدتهم قد هدموها بذريعة التجديد.. انقبض قلبي ودمعت عيني.. وأحسست بحزن عميق.. بعد عشر سنوات مررت عليها - للأسف - رأيتها قد تحولت إلى مزبلة ومجمع أنقاض وقاذورات.. فسحقوا بذلك تاريخ كامل لأجيال من الملاكات التعليمية والوظيفية والطلبة، ممن يملكون قدرة الاقتداء بالاخلاق والعلم.. وما زالت عيني على الطريق اتذكرها دوما وأبحث سائلا عنها لعل مصلحا أو قائدا أو وطنيا ما.

يعيد لمدرستي بهاءها ورونقها المفقود!.