هذا العالمُ تافهٌ جدَّاً

ثقافة 2023/10/12
...

 عبد الغفار العطوي  

حينما نطلق كلمة (التفاهة) في لغتنا العربيّة، فنقول عن الشيء: هذا شيء تافه، فإننا نحمل الشيء سوء الظن والازدراء، ومما هو أثقل وطأة من كل ما كنا نتوقع لكتاب مثل كتاب (نظام التفاهة)  للفيلسوف والأكاديمي وأستاذ الجامعة الكندي ألان دو بوتون الذي ترجمته إلى العربية (د. مشاعل الهاجري، دكتوراه في القانون الخاص، كلية الحقوق – جامعة الكويت) عن الانجليزية (والاستعانة بلغة الكتاب الأصلية الفرنسيّة) مع أن الكتاب صدر بالفرنسية عام 2017 إلا أنه أحدث ضجة واسعة في العالم نظراً لأسلوبه الصعب المتعب، وموضوعاته الجريئة، وطريقة تبني مؤلفه محاربة لجميع أنواع التفاهة.
 بدءاً بتناوله (أنا هنا أخطو مع المترجمة) الصحافة والكتب والتلفزيون والشبكات الاجتماعية  والفن والسياسة والتجارة والحوكمة وانتهاء بالجامعة والاكاديميا  والدرس العلمي إلى وضع الهدف النهائي في ما رمى إليه الكتاب.
إسباغ التفاهة على كل شيء، والبهرجة والابتذال إلى المبالغة في التفاصيل وهي السمات الصارخة في نظام التفاهة التي تحكم عالمنا اليوم، وربما كان المؤلف في كل ذلك يحاول الدفع إلى تشخيص فلسفة التفاهة التي وظفتها في بعض جوانبها الرأسمالية المتوحشة، التي كان يعتبرها هي العامل الأساسي في هيمنة نظام التفاهة، وانحدار العالم نحو أن يتصف بالتافه البليد، ومع اعتراف المترجمة بصعوبة ترجمته موضوعاً ومنهجاً، إلا أنها لم تخف إعجابها به.
وهذا الشيء يسهل علينا بدورنا اختيار زاوية النظر  لموضوع التفاهة من وجهة نظرنا كقرّاء، لم يتعامل مع هكذا أطروحات عندنا، ولأنَّ الكتاب متشعّب في تناوله ومرهق بهوامشه ومراجعاته، ستكون تعليقاتي مدعمة من خارجه، عبر أمثلة أخذتها من حواريّة إيريس مردوخ الفيلسوفة والروائية البريطانية (1919 - 1999) والفيلسوف الشعبي البريطاني بريان ماغي في نزهة فلسفية في غابة الأدب عام 1978 (لطفية الدليمي)، التي تكشف عن شخصية مردوخ وباعها الطويل في الرواية والفلسفة.
وقد نشرت عملها الأخير 1995، وهو رواية بعنوان (معضلة جاكسون) وما تعرضت له من انتقادات النقاد على أثر استفحال مرضها، أبرز مفهوم التفاهة التي تقابل بها قامة فلسفية وروائية مثل مردوخ، وكذلك في المثالين الآخرين، هل أفضل أيام البشر قادمة؟ مناظرة رباعية ألان دو بوتون، ستيفن  بنكر، مالكولم  غلادويل، مات ردلي، وكونديرا كتاب الضحك الشيطاني، لنقارن  بين طرح  د. الان دونو (من منظور أفكار د. مشاعل الهاجري) عن ما هي التفاهة؟، وكيف يمكننا وعيها في عالمنا العربي؟
لنفهم ما هي التفاهة المقصودة في هذا الكتاب! يدور موضوع هذا الكتاب حول فكرة محوريَّة: نحن نعيش مرحلة تاريخيَّة غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدى، تدريجياً إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل أنموذج الدولة الحديثة، بذلك، وعبر العالم يلحظ المرء صعوداً غريباً لقواعد تتسم بالرداءة والانحطاط – أعتقد هذا ما أراد قوله المؤلف، وقيمة ما رفع الكتاب نحو مفهوم اللعبة برأي د. الهاجري، لأنّ الكتاب قد احتوى على كل نشاط في الفضاء العام، واللعبة التي قصدها الكاتب هي التي يشارك بها جميع الأطراف، يلعبها الجميع رغم أن أحداً لايتكلم عنها، ولا قواعد مكتوبة لهذه اللعبة مثل رواية ألان دو بوتون (1984) التي سيتم التطرق لمثالها إلى مفهوم (اللغة الخشبيّة والخطاب الأجوف) الذي هاجم به دونو أساتذة الجامعات، وما يجري فيها حيث يتحدث المؤلف باستفاضة عن الأحوال المؤسفة للجامعات في زمننا هذا، وهو أشبه بمناظرة رباعيّة (هل أفضل أيام البشر قادمة؟) فالتفاهة ظاهرة نراها في ما يكون بين الأشخاص الطموحين، أناس ذوو معايير عالية تنشد النجاح الرفيع، وآخرون ذوو أخرى متدنية يبحثون عن النجاح السهل.
وهذه هي الفكرة التي لخصت ما هي التفاهة في صحافة التابلويد التي برزت مؤخراً كصحافة فضائح، لتعطي الوجه التافه لها في عالم اليوم وسط محاولة التبسيط الخطر في الكتابات الأكاديمية التي ركز الكتاب فيها حول اعتبارات اكاديمية امتدت لتطال كل وسائل التعبير الإنساني الحضاري.
أما التعامل مع الكتب، فهو الطامة الكبرى التي توضح صعود التفاهة نحو أعلى سلم الحضارة الإنسانية، فقد تركزت في تصنيف الأدب إلى رفيع وشائع، وهو تصنيف شاع في نهاية القرن التاسع عشر ليقضي على نمط الرفيع ويقف مع الشائع على أثر الحراك الاقتصادي للطبقة الوسطى التي وفرت له الحماية، وانتجت الرخيص والتافه من الأدب الشائع.
وبذلك قضت على الجدية والرصانة في قيام حركة نقدية متصدية له، وخلقت طبقة الأميين الجدد لعصرنا، أما سمة التفاهة في التلفزيون فقد أنصبت في وصمتين كبيرتين تمثلت بمذيعيه وبضيوفه، كما أصبحت الشبكات الاجتماعية ومواقع التواصل مجرد مواقع للقاء الافتراضي، وتبادل الآراء الخ.
ولعل التفاهة التي ناقشها الكاتب تدق ناقوس الخطر في السؤال الأكبر والأخطر الذي نسأله كلنا: هل أفضل أيام البشر قادمة؟
وإن كونديرا الفيلسوف والروائي الذي عاش الاغتراب والسخرية سيكتب عن الضحك الشيطاني، عندما نجد فوضى الحياة القادمة بكل تفاهتها؟، في قصد الكاتب، نعم، في اعترافه في مقدمة الكتاب بروح الفكاهة التي تقترب من روح كونديرا في سخريته المألوفة، أما في الاحاديث المتشائمة عن القابل من أيام البشر، فالنظرة المستقبليّة تحتمل أكثر تفاهة وتسطيحاً أن ما فعله الكاتب دونو هنا هو أنه أيقظنا من حلم تافه نحلم به كل ليلة إلى واقع تافه نعيش تفاصيله دوما، وإن كنت قد انطلقت من نظر المترجمة هنا، فإني اتفق معها في أن هذا الكتاب يجب اعتباره مرجعاً في حل تفاهاتنا في العالم المعاصر.