السعدون ولياليه الفنزويليَّة

الصفحة الاخيرة 2023/10/12
...

د. طه جزاع

منذ مغادرته العراق قبل عشرين عاماً، لم ينقطع الكاتب والصحفي والإذاعي عبد اللطيف السعدون عن التواصل مع أصدقائه في الوطن الذي فارقه على الكراهةِ من غير عودة، وليس بين الحِين والحينِ كما كان الجواهري يفارق أم البساتينِ. وقبل أيامٍ قلائل أعلم السعدون هؤلاء الأصدقاء بأنَّه ترك المستشفى في كاراكاس حيث مغتربه الفنزويلي، بعد عمليتين جراحيتين فرضهما عليه المرض الخبيث، وخاطبهم بالقول: أستميحكم عذراً في أنني قد لا أستطيع الردَّ على رسائلكم أو متابعة ما تنشرونه، لكنَّني سأحرص بقدر استطاعتي على التواصل معكم.
ينتمي السعدون الذي تجاوز الثانية والثمانين عاماً إلى جيلٍ أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات الصحفي، وقد ملأ فضاء الصحافة والإعلام بمواهبه ووظائفه التي تعدت العمل في الصحف والإذاعة والتلفزيون إلى العمل الأكاديمي مدرساً لمادتي التحرير الصحفي والتخطيط الإعلامي في كلية الإعلام بجامعة بغداد، فضلاً عن عمله الدبلوماسي مستشاراً إعلامياً للسفارات العراقيَّة في الخرطوم وبودابست وروما والرياض، وبسبب ذلك كانت حياته "هجرات متقطعة" كما يصفها، قبل أنْ ترغمه ظروف ما بعد 2003 على الهجرة النهائيَّة التي كان يظنها واحدة من هجراته المتقطعة لكنها امتدت إلى عقدين حتى يومنا هذا، وكان من أقسى ما واجهه في السنوات العشر الأخيرة معاناته في تجديد جواز سفره العراقي وجوازات أسرته ليتمكنوا من السفر والعودة إلى الوطن، مما اضطره منذ العام 2019 لأنْ يكتب لرئيس الجمهوريَّة ورئيس مجلس النواب ورئيس الوزراء، وسانده في ذلك سياسيون وناشطون وكتَّابٌ وصحفيون ممن يعرفون قدره حق المعرفة.
لم تكن سنوات كاراكاس للخمول والكسل، بل لمزيدٍ من العمل، فقد واصل عبد اللطيف السعدون عمله الصحفي، واستمرَّ في كتابة المقالات والأعمدة الصحفيَّة في عددٍ من الصحف والمواقع الإخباريَّة الدوليَّة، ومنها تحديداً موقع "العربي الجديد" الذي انطلق من لندن مع صحيفة ورقيَّة يوميَّة. لكنَّ العمل الأكثر إرهاقاً كان عكوفه على أعمال الترجمة التي مارسها منذ أنْ هجر العمل الدبلوماسي وأنجز فيها عدداً من الترجمات لدراسات ومقالات ورحلات مهمة، منها كتاب "عرب الأهوار" الذي نشرته كاملاً جريدة الاتحاد الإماراتيَّة وهو للكاتب البريطاني وولفريد ثيسجر، وكتاب "الليالي العربيَّة" الذي صدر في عَمان، ويتضمن مذكرات سيدتين أميركيتين في العراق وقبيلة شمر، هما روث وهيلين هوفمان وقد زارتا العراق في ثلاثينيات القرن الماضي، وعاشتا في بغداد ردحاً من الزمن، ثم حلتا في ضيافة شيخ عشائر شمر في الشمال.
في مذكرات السيدتين الأميركيتين، المثير والطريف والسعيد في حياة البغداديين ولياليهم قبل تسعين عاماً، وعن الحياة في الخيام وسط القبائل العربيَّة. ولا شيء من السعادة في ليالي السعدون الفنزويليَّة وهو مريضٌ في غربته، وبعيدٌ عن بغداد.