المشروع المنافس لقناة بنما.. لم ير النور قط
كريس بارانيويك
ترجمة: مي اسماعيل
تعد قناة بنما من الممرات الملاحية الضرورية للتجارة العالمية؛ لكن فترة طويلة من الجفاف مؤخرا تسببت بترك أعداد كبيرة من السفن تنتظر المرور عبرها، مما أثار تساؤلات عن مدى الحاجة لتوفير ممر بحري بديل بين المحيطين الأطلسي والهادي.
هناك زحام مروري ذو أبعاد هائلة؛ إذ تطفو نحو مئتي سفينة (بحسب بعض التقديرات) بانتظار دورها في العبور؛ بعضها مُحمّلة بحاويات مليئة ببضائع منها- الاثاث والمواد الاستهلاكية أو مواد البناء، بينما تحمل اخرى النفط أو الغاز، وهناك سفن تنقل الحنطة.. وكلها موعودة بعبور واحد من أشهر ممرات «عنق الزجاجة» عالميا..التي توصف بأنها البوابة الحيوية للشحن العالمي.. قناة بنما.
غير أن مرحلة جفاف غير معتاد كانت قد حلّت منتصف موسم الأمطار المفترض في بنما، أدت إلى انخفاض مستويات المياه في خزانين يغذيان القناة. ونتيجة لذلك اضطر المُشغلون إلى تقييد حجم وعدد السفن التي تجتاز نظام القفل اليومي للقناة.
في اقتصادنا العالمي الذي يتمحور حول مقولة «في الوقت المناسب»؛ لا تستطيع الأسواق التي تتداول تلك السلع الانتظار لفترة طويلة؛ حيث تمر نحو ما قيمته 270 مليار دولار من البضائع عبر قناة بنما سنويا، في طريقها إلى أكثر من 170 دولة. وقد اتخذت بعض تلك السفن بالفعل قرارا بسلوك طريق بديل عن تلك القناة تفاديا للتأخير.
تقول «ميشيل ويز بوكمان» كبيرة المحللين في مؤسسة «لويدز لست إنتلجينس- Lloyd›s List Intelligence» لخبراء التجارة البحرية العالمية: «إنها حالة غير مسبوقة؛ وتسبب المزيد من القلق». وتمضي موضحة أن تلك الحالة يمكن أن ترفع تكاليف الشحن خاصة اذا كان الوقود غازا مُسالا طبيعيا؛ مما قد يؤثر بصورة مباشرة على أسعار المستهلك. وفي أوقات مثل هذه الأزمات تطفو إلى السطح ثانية أفكار قديمة سبق وأن تم طرحها.. فماذا لو كان هناك طريق آخر للوصول من المحيط الهادئ إلى الأطلسي بالسفن؟
قناة نيكاراغوا
بحلول مطلع القرن الماضي كان أمام الولايات المتحدة الأميركية خياران: إما بناء قناة تربط المحيطين الأطلسي والهادئ عبر نيكاراغوا، أو عبر بنما. وقد صوّت مجلس الشيوخ الأميركي لصالح الخيار الثاني؛ وكان خيارا أبسط نسبيا؛ إذ كان المسار أقصر، وعلى خلاف نيكاراغوا؛ حيث لم تكن هناك سلسلة من البراكين النشطة لأخذها بنظر الاعتبار. وعلى الرغم من ذلك لم تتلاش فكرة القناة عبر نيكاراغوا أبدا، فقبل نحو عقد من الزمن تبنى رجل أعمال صيني مشروعا عملاقا لبناء مثل تلك القناة بحلول أواخر العقد الأول من القرن الحالي (في سنة 2009).. ولم يتحقق المشروع بالرغم من الدعاية الرنانة له. ولكن الجفاف المؤذي الذي حل بقناة بنما اليوم وتهديد المزيد من تناقص المياه المرتبط بتحولات المناخ خلال السنوات المقبلة دفع بالبعض إلى التساؤل ما اذا كان وجود قناة أخرى تمر عبر نيكاراغوا (أو عبر دول أخرى في اميركا الوسطى) قد لا تكون فكرة سيئة على أي حال. يقول «جان بول رودريغو» من جامعة هوفسترا، الذي درس التاريخ الطويل للنقاشات حول بناء قناة نيكارغوا والعقبات المتعلقة بالأمر: «انه أمر ممكن من الناحية الفنية؛ لكن المشكلة هنا أن المسافة المقصودة أطول بكثير من ممر قناة بنما». فالمسار المقصود هنا سينقسم غالبا إلى قناتين: تربط أحدهما بحيرة نيكاراغوا بالمحيط الهادئ غربا، وتربط الاخرى تلك البحيرة بالمحيط الأطلسي شرقا.
يكون طول القناة الاولى نحو 25 كيلومترا، أما الثانية الرابطة بالمحيط الأطلسي فستكون أطول؛ أي نحو مئة كيلومتر. لكن قناة بنما الحالية، التي تقع في وسطها بحيرة «جاتون» الاصطناعية، يبلغ طولها الاجمالي نحو ثمانين كيلومترا وتمتد على طول الساحل البنمي؛ وهو أضيق جزء من اليابسة يربط القارتين الأميركية الشمالية مع الجنوبية من جهة، مثلما يفصل المحيط الهادئ غربا عن البحر الكاريبي في المحيط الأطلسي شرقا.
تحدٍ للإدارة الأميركيَّة
تتباين التقديرات حول كلفة بناء قناة نيكاراغوا المفترضة، لكنها تقارب مبلغا يصل إلى أربعين مليار دولار؛ كما يرى رودريغو. ويجب أن يكون المستثمرون المهتمون بالمشروع متأكدين من وجود تدفق مستمر للسفن خلال السنوات القادمة؛ طالما ان رسوم العبور من تلك السفن هي التي ستأتي بالدخل لأصحاب القناة الجديدة. وحتى لو أمكن ضمان ذلك؛ فستكون هناك دون شك عواقب بيئية ترتبط بمثل هذا المشروع الضخم.. ففي الماضي تذرع معارضو الفكرة باحتمالات تدمير الغابات المطيرة وكذلك الاراضي الرطبة، فضلا عن تلويث المياه العذبة لبحيرة نيكاراغوا، وتعطيل الممرات المائية المهمة في المنطقة المجاورة كتداعيات محتملة. وعلى الرغم من تلك المعوقات وجد المشروع من يدعمه.. ففي العام 2013 وقعت مؤسسة «HKND» الصينية البحرية عقدا مع حكومة نيكاراغوا؛ التي منحت الشركة حق بناء القناة لمدة خمسين عاما قابلة للتجديد لمدة خمسين عاما أخرى. لكن الشركة اغلقت مكتبها في هونغ كونغ خلال العام 2018 ولم يجر تنفيذ المشروع!
كتبت «سارة ماكول هاريس» (جامعة دنفر) اطروحة حول معارضة المجتمعات المحلية في نيكارغوا للمشروع؛ قائلة إن الاحتجاجات كانت تقودها النساء غالبا، وأن الكثير من المحتجين قاموا بما امكنهم لتوضيح قلقهم ومعارضتهم للمشروع؛ لشعورهم ان المخطط برمته يفتقر إلى الشفافية والضمانات البيئية الكافية؛ وهو ما رفضته الشركة الصينية حينها. وتتساءل هاريس عن مصداقية التزام حكومة نيكاراغوا بالمشروع، وربما أن هذه الاخيرة مهتمة أكثر باتخاذ المواقف، وإظهارها للولايات المتحدة أنها قادرة على التعاون مع شركاء آخرين، كما تقول. ولكن؛ هل من بدائل اخرى؟
من الجدير بالملاحظة أن قناة بنما الحالية تعدُّ إنجازا استثنائيا للهندسة؛ كما يقول «جوليان بومر» أستاذ الهندسة المدنية بجامعة لندن: «إنه أمر لا يصدق»؛ إذ تتناسب سفن الشحن الكبيرة مع مسار القناة بدقة، مع توفير مجال لبضعة بوصات فقط على كلا الجانبين».
هذا الانجاز الهندسي يحصل عدة مرات يوميا؛ على الرغم من أن ظروف الجفاف الحالي باتت تُحتم على سلطة القناة تحديد عدد السفن المارة عبر مياه القناة وكذلك أحجامها. ذلك أن تلك التراكيب الهندسية التي تشبه درجات مائية تحتوي على أقفال عملاقة، تسمح للسفن بالمرور مع تغيير في مستوى المياه من حيث الارتفاع أو الانخفاض. وفي المستوى الاعلى من ذلك النظام الهندسي تقع بحيرة «جاتون» الصناعية، التي تعلو بنحو 26 مترا فوق مستوى سطح البحر.
الممر الشمالي
في الماضي كانت تظهر مقترحات لبناء قنوات أخرى؛ منها تلك القنوات التي توازي مستوى سطح البحر لتقليل الاعتماد على التدريجات والأقفال المائية؛ في بنما أو في بلدان مجاورة. ومع أن القنوات الضخمة تبقى محل نظر بوصفها مشاريع مكلفة ماليا بشكل كبير؛ فقد تأتي مشاريع أخرى مستقبلا تضع قناة بنما الحالية في موضع تنافس معها. فهناك خطة المكسيك لبناء جسر على اليابسة؛ وهوعبارة عن نظام ضخم من سكك الحديد والطرق السريعة وخطوط الأنابيب التي تربط الساحل الغربي للدولة بساحلها الشرقي. وكانت الحكومة المكسيكية قد أعلنت عن خططها لهذا المشروع لأول مرة في العام 1975، غير أنها أعطت الأولوية مؤخرا للاستثمار فيه مرة أخرى؛ برغم معارضة المجتمعات المحلية له. وفي كولومبيا ظهر مقترح لبناء قطار من نوع «ماجليف- maglev» (= قطار مغناطيسي يتحرك فوق القضبان بمحرك خطي. المترجمة) ويكون مساره تحت الأرض لغرض نقل الحاويات. ويمكن لمنافذ آلية معينة تحميل الحاويات على قطارات ماجليف، والتي تنقلها بعد ذلك إلى منافذ مشابهة على الجانب الآخر من البلاد، وكل ذلك يتم في غضون أقل من 30 دقيقة.
يمضي رودريغو في الحديث عن وجود جسر على اليابسة بالفعل في الولايات المتحدة حاليا؛ إذ تنقل قطارات الشحن الحاويات عبر السكك الحديدية بين ساحلي المحيط الهادئ والأطلسي، حيث يمكنها بعد ذلك (على سبيل المثال) استخدام السفن إلى وجهات أخرى. ويطفو إلى السطح سؤال عن خط بحري آخر: فماذا عن المسار الشمال غربي، وهو مسار بحري عبر القطب الشمالي؛ أي- شمال الولايات المتحدة؟ إذ أصبحت التغطية الجليدية هناك منخفضة جدا خلال فصل الصيف بسبب تغير المناخ، بحيث أنه يمكن للسفن أحيانا المرور عبرها بأمان نسبيا. لكن رودريغو يرفض فكرة استخدام سفن شحن الحاويات لهذا المسار تحت أي ظرف شديد، قائلا: «لديك خدمات نقل تعمل على مدار العام؛ ولكن مع طرق القطب الشمالي، قد يكون الممر الشمالي الغربي للولايات المتحدة القريب من كندا على وجه الخصوص مفتوحا لمدة شهرين فقط.. هذا إذا كنتَ محظوظا». فضلا عن أن المخاوف البيئية تزداد في هذه المنطقة، وقد تعتمد جاذبية الطريق أيضا على متغيرات جديدة إذا ما اختارت الحكومة الكندية فرض رسوم على العبور عبر مياهها.
لعل الظروف الاستثنائية التي شهدتها قناة بنما في هذا العام هي التي حفزت الاهتمام المتجدد بالبدائل لهذا الممر المائي ذي الأهمية الستراتيجية. غير أن جميع تلك البدائل؛ خاصة فكرة قناة نيكاراغوا وغير من المشاريع بعيدة الأمد؛ تمثل تحديات مالية وهندسية ضخمة لا تتبخر لمجرد حدوث جفاف دوري. بحسب وصف رودريغو الذي يعلق مختتما: «بمجرد أن يهدأ الوضع، وإذا كان هناك المزيد من الأمطار والظروف الطبيعية؛ أتوقع أن تختفي هذه الفكرة مرة أخرى من دائرة الضوء.. حتى تظهر أزمة قادمة».
عن موقع بي بي سي البريطاني