قيود الفقر

الصفحة الاخيرة 2023/10/15
...

محمد غازي الأخرس
ويقولون في الأمثال: بزر الفقير مثل ركي الفطير، بمعنى أن خلفة الفقراء من الأولاد تنتهي بأن تكون غير نافعة كالبطيخ الفطير، والسبب قلة رعاية الأولاد وسوء حال أهلهم. مثل لكأنه صادر عن عالم اجتماع، لا عن مخيلة شعبية بسيطة، فتأثير الفقر يتعدى الجسد، ليصل إلى الروح والعقل وقد يرسم مآل الإنسان المستقبلي. تذكرت هذا المثل وأنا أستمع لحديث رائع للممثل الراحل عمر الشريف عن طفولته وتأثير الأبوين ووعيهما في مصيره. يقول إنه كان محظوظاً بوالديه، لأنه الابن الوحيد لهما، ومن أول يوم جاء فيه إلى الدنيا قررت أمه أن تجعله أجمل رجل في الدنيا، وأذكى شاب في العالم. هكذا كان قرارها هي لا قراره، بمعنى أنها قررت رسم صورته كأجمل ما يكون. يكمل الشريف أنه في طفولته، أصيب ببوادر سمنة لشغفه بالأكل، فكان أن قررت أمه تسجيله في مدرسة إنكليزية داخلية. كانت تعرف أن الطعام الانكليزي ليس شهياً، ولا يغري الشرهين، لذا سجلت ابنها في تلك المدرسة، ثم ما هي إلا أشهر حتى ذابت شحوم الطفل وأصبح رشيقاً، وفي الوقت نفسه، تعلم الفتى الإنكليزية وهو ما غيّر حياته لاحقاً، وساعده في اختبار ترشيحه لدوره في فيلم (لورنس العرب)، ليتحول بعدها إلى العالمية. 

وأنا استمع لحديث الممثل الراحل، تذكرت رأياً من أحدهم صدمني ذات مرة حين فند الفكرة التقليدية الشائعة، من ان الإبداع يولد من رحم الحرمان، قال حينها أن العكس هو الصحيح، فالحرمان والفقر يقتلان الموهبة، في حين ينميها الثراء ويقدم لها حاضنة مثالية لتترعرع وتكبر، بدليل أن أعظم الكتاب والمفكرين والفنانين ولدوا في بيئات ارستقراطية. تفسير ذلك أن البيئات المرتاحة مادياً توفر للموهوب ما يحتاجه ليطور ملكاته، ومن ذلك الوقت والمزاج للتأمل في العالم واكتشاف الذات. وبالنتيجة، يعمل هذا على ترقية الذهن والعقل وتصفية النفس من العقد. على العكس من ذلك، يقتل الفقر الروح المبدعة ببطء، ويجعلها مشغولة بضروريات الحياة والبحث عن سبل العيش، من ثم، يتحول الفقير غالباً إلى ذات مرتبكة، مهمومة ومعقدة. 

صحيح أن الفقر قد يعمل العكس أحياناً، فيدخل المرء في معركة تحد ضد ظروفه ويفجر طاقاته لينجح. ولعل الحرمان يتحول إلى مغذ من مغذيات حلم الثراء فيعمد المرء لتطوير ملكاته. والخلاصة أن كون الحرمان قاتلاً للمواهب ليس قاعدة، بدليل أولئك الفقراء ممن تبرعمت مواهبهم في أفقر البيئات وأتعسها، وفي كل زمان ومكان. مع هذا، لطالما قتلت الهوامش المعدمة ومدن الصفيح براعم الموهبة في بيئتها وشغلت الطبقات الفقيرة باللهاث خلف رغيف الخبز.  

بالعودة إلى المثل آنف الذكر؛ بزر الفقير مثل ركي الفطير، فإن هناك ما يرادفه في مصر حيث الغلابة أضاعوا أحلامهم ومواهبهم خلافا لعمر الشريف، يقولون: الراجل الخايب خلفته كتير، والبطيخة القرعة لبها كتير، والمثلان يختصران كل شيء، ويعكسان رهافة في فهم مأزق الفقراء، فالفقر ينتج الخيبة ويكسر النفس وينتف ريش جناح صاحبه ويقيده، لهذا قال العراقيون في مثل آخر؛ الإفلاس زنجير العفاريت، أو زنجيل العفاريت، أي أن الفقر لفرط قسوته، يقيد حتى العفاريت والجن ويمنعها من الحركة، فكيف بالموهبة والفضول للمعرفة والإبداع!.  إي والله، الفقر بيت العقد النفسية، معيق للعقل ومورث للعلل، ويا لبلاغة ما قالوا: بزر الفقير مثل ركي الفطير !