تصوّرات عن مستقبل الشعر

ثقافة 2023/10/16
...

 باقر صاحب  

الحديث عن موضوعة مقالتنا يجرّنا إلى الحديث عن التحديات التي تواجه الشعر راهناً، ومن ثمّ ننعطف إلى مستقبله في ضوء تلك التحديات، فما زال الجدل مستمرّاً بشأن إشكالية تلقي الشعر المعاصر، تلك التي ستلازم مستقبل الشعر أيضاً، فكلما ازدادت تعقيدات الحياة الحديثة، ربما سيستمر اقتران غموض الشعر بها، وربما سيضطرد نفور القرّاء من غموضه وصعوبة تلقيه، فيتصور الشعراء بأنهم يعيشون في جزيرةٍ معزولة عن العالم والناس والحياة اليوميّة.
  وبالتأكيد أن شعراء الحداثة، لهم دفاعاتهم عن طبيعة ما يكتبون من نصوصٍ شعريّة، فالحداثة قلبت كلَّ مجالات الحياة رأساً على عقب، بدءاً من السياسة مروراً بالاقتصاد، ومن ثم المعارف والعلوم والثقافات على اختلاف أنماطها وأجناسها. ببساطة يقول الشعراء، كلُّ شيءٍ تغيّر، فلماذا نحرّم هذا التغيير على الشعر، وبالطبع، أن هذا التغيير، الذي تُطلق عليه مُسمَّيات الحداثة والمعاصرة والمغايرة، يشمل المضمون والشكل معاً، وفق أنماطٍ استُحْدثت منذ نهايات منتصف القرن الماضي، فكان العراق موطن الحداثة الشعريّة على أيدي روّاده السيّاب والملائكة والبياتي، ومن ثم دخلت قصيدة النثر مضمار التحديث الشعري في خمسينيات القرن الماضي، على أيدي شعراء عرب مثل أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وتوفيق صايغ فضلاً عن آخرين عراقيين وعرباً.
الحداثة الشعريّة العربيّة، مضى عليها أكثر من ستّة عقود، مُتوّجةً بما يُسمّى الآن عصر ما بعد الحداثة مع تجريب الشعراء أنماطاً جديدة مثل النص المفتوح والرواية الشعريّة، لأنّه من غير المنطقي، أن يبقى الشعر على حاله وفق نمط العمود الكلاسيكي وصوره المباشرة وقوالبه الجاهزة ورومانسيّاته؛ لذا طبع الغموض عديد تجارب شعراء النصف الثاني من القرن الماضي، ودليلٌ واحدٌ على ذلك منجز الشاعر الراحل رعد عبد القادر في مجموعته “جوائز السنة الكبيسة”، بالتأكيد أن المتلقي العادي، ربما يرمي المجموعة جانباً، بعد قراءته الصفحات الأول منها، مع ذلك ربّما سيصبح الشعر أكثر غموضاً، في ظلّ ما تكتبه أجيال شعراء الحداثة المخضرمين والجدد الآن.
  ردود الأفعال في النفور من الغموض وصعوبة تلقي القصيدة الحديثة، لم تقتصرْ على القرّاء، بل أن عديد الشعراء عملوا على تجديد دماء القصيدة العموديّة، فظهر في تسعينيات القرن الماضي في العراق، شعراء حركة (قصيدة الشعر)، وهم أغلبهم من الوسط الأكاديمي، ومن بينهم عارف الساعدي ونوفل أبو رغيف وفائز الشرع ومشتاق عباس معن وغيرهم.    
  الغموض ليس وليد العصر الحديث، بل إنّ نقّاد العرب القدامى عابوا على أبي تمام وعورة أبياته معنى ولفظاً، فتناقلت العرب المجادلة المشهورة حين قِيلَ له: لِمَ تقولُ ما لا يُفهم، فردَّ عليهم: ولم لا تَفهمون ما يُقال.  
انتشار شائعة غموض الشعر أو تعميمه على أغلب نماذج الشعر الحديث، في الثقافة الشفهية، أي تناقلها بين القرّاء من مختلف الأجيال، فضلاً عن المدوّنات التي تنتقد هذا الغموض، أدى إلى بروز ظواهر عدّة، منها تراجع دور النشر عن نشر المجموعات الشعريّة، فضلاً عن عدم اهتمام المؤسسات الثقافيّة الرسميّة والأهليّة بتخصيص جوائز مغريةٍ لمسابقات الشعر، مثلما هو الحال في الرواية، وهذا يقودنا إلى الظاهرة الثانية، وهي صعود نجم الرواية، حتى أصبحت ديوان العرب، بعد أن كان الشعر ديوانهم، وتشجيع دور النشر على طباعة الروايات، والتعاقد مع كتّابها البارزين، الذين تراهن على فوزهم بعديد جوائز الرواية، وما أكثرها مثل جائزة كتارا للروايات المنشورة وغير المنشورة، وجائزة البوكر العالمية للرواية العربية، وهاتان الجائزتان مبالغهما مغريةٌ جداً، بحيث أن من يحوزها، ربما يتوفر له مستوى معيشي لائق، فضلاً عن الحوافز التي يتحصل عليها كلٌّ من دار النشر التي طبعت الرواية الفائزة، والفائز بها، عبر إعادة طبع الرواية الفائزة لمرّاتٍ عديدة، فضلاً عن ترجمتها إلى لغاتٍ عالميّة.
واقع الحال هذا، أدّى إلى هروب عديد الشعراء نحو كتابة الرواية، فضلاً عن أن عديد النقاد وكذلك الكتّاب الانطباعيين، تحمّسوا أيضا للهجرة نحو كتابة النقد الروائي، استسهالاً منهم، وفقاً لتبريرٍ جاهزٍ هو أن من يجافي قراءة الشعر، سيجافي تلقائياً الكتابات النقديّة عنه.    
هناك مسألةٌ مهمةٌ تعزّز الحضور الشعري كجنس إبداعي أول مستقبلاً، يمكن تفصيلها كما يلي: إذا كانت الموهبة الشعرية أمراً يتعلق بالشعراء وحدهم، وصقلها ممكنٌ بالتحصيل الذاتي، أي القراءات غير الأكاديمية، لمن تخصصاتهم الدراسية غير أدبية، فإنَّ تحبيب الشعر للقرّاء لا يمكن إيقاظه لديهم، إلّا باضطلاع المؤسسات التربوية والتعليمية، بمنهجة الشعر  بدءاً من المراحل الدراسيّة الأولى، وحتى الجامعة، على أن تكون مناهج تدريس الشعر متطوّرة وجاذبة ومحفّزة لمخيّلات الطلبة، فهل سيكون لدينا مستقبلاً مناهج مستقلةٌ لدراسة الشعر والقصة القصيرة والرواية في مراحل الدراسة الأوليّة، يتولى تدريسها وتحبيبها للطلاب أساتذة متخصّصون بهذه الأجناس الإبداعيّة، ومستعدون بعمقٍ وطواعيةٍ لترغيب الطلبة بها. هذا من جانب، من جانبٍ آخر تخصيص منهجٍ دراسي للشعر، سيسهم في إحياء اللغة، لأنَّ تثوير اللغة عبر الشعر يجعلها حيويةً، مسهمةً في التعبير عن أحاسيس الإنسان وقضاياه الحياتية المتشابكة بأبهى الصور.
التحفيز الثاني لجعل الشعر مستقبلياً هو تأسيس جوائز كبرى في الشعر، مثلما هو الحال الآن مع الرواية، سنجد حينها أن بوصلة الإبداع تتّجه نحو الشعر، الكتّاب ودور النشر والقراء.
 لنكن واقعيين، لا يخلو أيّ مبدع، بأيِّ جنسٍ يكتب، من طموحاته بالشهرة والثراء والحياة المريحة والسفر متى يشاء إلى كلِّ بقاع العالم، ولكن هنالك دائماً الاستثناء، هناك زهّادٌ من كلِّ  تلك المغريات، وإن يكونوا قلةّ.
وهناك حقيقةٌ يجب أن نقرَّ بها وهي تناقصُ أعداد القرّاء لكلّ المعارف والأجناس الإبداعيّة، وهي ظاهرةٌ تُعزى إلى أسبابٍ عديدةٍ منها الغزو التكنولوجي، فأصبح الهاتف الذكي رفيقنا الدائم وليس الكتاب، فلا ضيرَ مستقبلاً، أن يكون الشعر فنَّ النخبة، مبدعين وقرّاء. ولا نتناسى هنا حقيقة أن غالبية المبدعين يُولدون شعراء، ومنهم من يبقى مغروساً في حقل الشعر، وآخرون يثمرون في حقولٍ أخرى، لذلك لن يموتَ الشعر مستقبلاً، لأنُّه الأمّ الأولى لكلِّ
الأجناس.