محمد صابر عبيد
يعد مصطلح «الشهرة» أحد أبرز المصطلحات التي يشتغل عليها المبدعون في حقول الإبداع المختلفة، وما أن يصل المبدع إليها حتى يشعر بأنه حقق المراد وحازَ على موقع مهمّ في مجال إبداعه يؤهله كي يكون مشهوراً، ليصبح بعد ذلك في مرايا الشهرة علماً من الأعلام؛ يحظى بمزيدٍ من الضوء والانتشار والنجوميّة يصل فيها إلى مرحلة أكيدة من الرضى، فيتربع على عرش الشهرة ساعياً إلى توظيفها لخدمة ما يريد ويرغب أن ينجزه منها.
لا تتحقّق الشهرة لأيّ نجم -مهما كان- من دون ماكنة تعمل في اتجاهات كثيرة لصناعة هذا النجم وإيصاله إلى مرتبة الشهرة، وثمّة «غائب» يسهم على نحو أكيد وفاعل في هذه الصناعة النوعيّة المغايرة ولا يعرفه كثيرون، حيث يكون له دور كبير جداً في هذا المجال بوصفه عاملاً مساعداً يعتمد عليه النجم كثيراً في تسيير فضائه النجوميّ، ولا بديل له على صعيد قيامه بدور استثنائيّ لا يسع غيره القيام به مطلقاً، فهو يقوم بأعمال حاسمة في خدمة النجم الشهير وحسبه الاستمتاع الشخصيّ بها على نحو شديد الخصوصيّة.
يمكن وصف الإعلامي المصري وجدي الحكيم مُقدِّم البرامج الإذاعيّة والأدبيّة وأحد المهتمين بالموسيقى والغناء وأحد رعاة الفنانين في مصر بأنّه أنموذج لهذا «الغائب الحاضر»، إذ يحمل من الأسرار والخفايا على قدر يفوق ما يعرفه هؤلاء الفنّانون أنفسهم أحياناً، وهي أسرار ذات أهميّة بالغة على صعيد التعرّف الجوهريّ الفاعل على حساسيّة الفنانين المتموّجة، وهم ينتمون إلى فنّهم أكثر ممّا قد ينتمون إلى الصفحات الأُخر من حياتهم مهما كانت مهمّة.
يروي وجدي الحكيم حكاية أغنية «أيّ دمعة حزن لا» التي غنّاها عبد الحليم حافظ من ألحان بليغ حمدي، وكلمات محمد حمزة، ففي غمرة انشغال عبد الحليم حافظ اقترب منه بليغ حمدي وأسمعه على الطاير الجملة الأولى من هذه الأغنية، ثمّ تركه وغادر بعد أن وضع في يدَي عبد الحليم قيداً جماليّاً يصعب التخلّص منه، حيث لم ينمُّ عبد الحليم ليلتَها؛ وفي الصباح الباكر اصطحب معه وجدي الحكيم بحثاً عن بليغ حمدي فلم يجداه في القاهرة كلّها، فذهبا إلى المطار كي يعرفا من هناك هل غادر بليغ حمدي القاهرة وما هي وجهته، وما أن عرفا أنّه سافر إلى بيروت حتّى استقلّا أقرب رحلة وسرعان ما كانت مائدة الفطور في اليوم التالي تضمّ أربعة أشخاص، عبد الحليم وبليغ حمدي ووردة الجزائريّة ووجدي الحكيم، هكذا يكون الفنّ الحقيقيّ لنجوم يعرفون معنى الشهرة ومعنى النجوميّة ومعنى العمل من أجل هذا الفضاء الشديد النوعيّة والفرادة والتميّز.
طلب عبد الحليم وبليغ حمدي من وردة والحكيم الذهاب إلى مطعم معيّن في بيروت بانتظار أن ينتهيا من وضع اللمسات الأولى لصناعة هذه الأغنية، على أن يلتحقا بهم بعد ساعات قليلة بعد أن يفرغا من تشييد الأساس الفنيّ للأغنية، غير أنه مضت ساعات طويلة أغضبت وردة حين لم يلتحقا بهما؛ وطلبت من الحكيم العودة إلى الفندق فوراً، وما إن وصلا الفندق حتى عرفا أن عبد الحليم وبليغ غادرا بيروت إلى القاهرة، وقد نَسِيَ بليغ حبيبته وردة ونَسِيَ عبد الحليم صاحبه الحكيم، فكانت المفاجأة المدوّيّة التي تعني من جملة ما تعنيه أن للنجوميّة وللشهرة وللانتماء الحقيقيّ للفنّ ثمنه الباهض، فالشعور المشترك بين المطرب والملحّن بلغ درجة عالية من التوافق والانسجام والاتحاد والمصير الفنّي يُلغي أيّ شيء عداه.
لا يمكن معاملة هذه الحكاية على نحو عابر مطلقاً، إذ هي تنطوي على كثير من الدلالات والقيم والاعتبارات حول ضرورات الفنّ والسبل الراقية للتعامل معه، فحالة الاندماج والتماهي والانفعال والانتماء الصوفيّة التي حدثت بين عبد الحليم وبليغ حمدي حول أغنية استثنائيّة هي حالة في منتهى البلاغة على أكثر من مستوى، بما يدلّل على عُلوّ هذه الطبقة الفنيّة في سلّم الجمال والإبداع، فضلاً على النضج والوعي والمعرفة والحساسيّة التي جعلت منهما مثالاً نادراً للإدراك النوعيّ لوظيفة الفنّ في قلب المزاج الاجتماعيّ من الحزن إلى الفرح «أيّ دمع حزن لا لا لا»، وسرعان ما نالت هذه الأغنية شهرة هائلة سرتْ في المزاج الثقافيّ الفنيّ العربيّ كالنار في الهشيم، وحقّقت النجاح المطلوب بحيث أدركت وردة الجزائرية ووجدي الحكيم أن إهمالهما وتركهما في بيروت كان له قيمة كبيرة جداً.
يظهر وجدي الحكيم «الغائب الحاضر» هنا في دور الشريك الخفيّ وقد أسهم في انتاج هذه الأغنية الكبيرة في مراحلها كلّها، وعلى الرغم من أن هذا الدور قد لا يبدو واضحاً للكثيرين لكنّه دور بنيويّ في الطبقة الثانية من الحكاية، ولولاه مثلاً لما عرف أحد بها إذ لم يذكرها أحد من الثلاثة الآخرين «عبد الحليم/ بليغ حمدي/ وردة»، لأنّهم لا يشعرون بأهميتها التاريخيّة والاعتباريّة مثلما يشعر بها راويها؛ وهو يرويها بمحبّة وشغف وطرافة تحيل على منطقة الضوء التي يمكث فيها ويرى الأشياء بوضوح وقيمة بطريقة لا يحسنها غيره.
يحضر الغائب حضوراً ناجزاً لحظة رواية هذه الحادثة بما تتوفّر عليه من معانٍ استثنائيّة، على مستوى فهم أحد ألغاز الفنّ وحِكَمِهِ الخفيّة من جهة، ووظيفة العنصر الغائب المؤثّر في صوغ الحكاية على أرض الواقع وأرض الرواية معاً من جهة
أخرى.