وحش بعين واحدة

العراق 2023/10/16
...

أحمد عبد الحسين

عشيّة ضربتْ جيوش الغرب العراق سنة 1991، تلك الضربة المليئة بالحقد والتي نكّلتْ بالبلاد وأذلَّتْ الناس وأبقت الديكتاتور على عرشه، رأيتُ ليلتها حواراً مع جبرا إبراهيم جبرا يتحدث من بيته في المنصور بذهول تامّ عن الوحشية في اختيار الأهداف المدنية والخدمية.
جبرا الذي توفي بعد هذا الحوار بسنتين كان ابن ثقافة الغرب فهو أبرز مترجمي شكسبير وقد تعلّم في مدارس غربية، في مدارس تبشيرية مسيحية بالقدس أولاً ثم أكمل تعليمه في هارفرد وكتب وترجم عن الأدب الإنكليزي أكثر من خمسين كتاباً من بينها كلّ أعمال شكسبير. قال في ذلك الحوار جملة لن أنساها، قال: أنا أثق بهذه الحضارة التي فيها شكسبير وميلتون وإليوت وديلان توماس، لكنّ هؤلاء الذين يضربون بغداد لا أعرفهم. أنا حائر كيف أن حضارة أنجبتْ هذه الكنوز الإنسانية قادرة على أن تتحيْوَن إلى هذا الحد.
أغلب الناس لا يعرفون عن الغرب المثقف ما يعرفه الراحل جبرا، لكنهم مع ذلك يحملون عنه صورة كُرّرت حدّ التلقين لها ارتباط بالحريات وحقوق الإنسان والدفاع عن حرية التعبير والرأي ونصرة قضايا المهمشين، إضافة إلى تسيّد العالم ثقافة وفلسفة وأدباً وفنوناً.
لكنّ هذا الغرب نفسه، دائماً وأبداً، لا يكون حاضراً في المواعيد الأخلاقية الكبرى. كان غائباً في حصار العراق حين سُئلتْ مادلين أولبرايت: هل يستحق الأمر موت مليون طفل عراقي من الجوع؟ وأجابتْ نعم إنه يستحق. وكان غائباً حين سمحت لصدام بقتل المنتفضين وإطلاق يده من جديد.
اليوم هناك موعد أخلاقي كبير في غزة التي تُباد وتطهّر عرقياً على يد جيش مدجَّج بسلاح أميركي فتّاك وعقيدة سوداء أشدّ فتكاً تكره كل ما عداها. والغرب لم يكتف بغيابه عن هذا الموعد بل حضر بأبشع صورة له وأحقر نسخة منه، حضر على هيأة مينوتور بعين واحدة لا ترى الحقّ إلا في جانب صاحب القوة وشعاره " Right is might" ساحقاً على شعب يُمحى الآن بأكمله تحت وطاة السلاح الذي أنتجه وصدّره الغرب نفسه.
هذا ليس غرب شكسبير ولا حتى غرب مترجمه جبرا. هذا هو الغرب الحقيقيّ، غرب بلا أخلاق يوقظنا من نومنا بعنف ويعرّفنا على نفسه من جديد.