أنسنة الأشياء في «أصابع الأوجاع»

ثقافة 2019/05/10
...

 علوان السلمان
 النص السردي صورة من صور الوعي الاجتماعي الذي هو انعكاس للوجود الاجتماعي.. وسيلته اللغة وغايته الاسهام في بناء الانسان وتهذيب الذوق..اذ يتحول فيه المستهلك(المتلقي) الى فعالية مشحونة بالحركة والتساؤل..بتأمله اللحظة الحياتية التي يقتنصها المنتج(القاص) ويضعها بين يدي وامام عيني قارئه ببناء متماسك يكشف عن اتقانه فن اللعبة القصصية المبنية على الدقة والتناسب في اختيار الالفاظ مع فعل درامي يتخذ من المشهد الذي يعرض جانبا مهما من جوانب الواقع معتمدا الاختزال في الامتداد الزمني اللامحدود..
   وباستحضار المجموعة القصصية (أصابع الاوجاع العراقية) التي نشرتها  دار الشؤون الثقافية /2017..كونها تعتمد  رؤية سردية محددة بمنطق جمالي يتواصل بمشهدية ترتقي من الحسي الى التخييلي وهي توظف الاشياء وتؤنسنها (أخبيء أصابعي في جيوب ملابسي..فأحسها تختنق وتبحث عن متنفس..) عبر لغة مكثفة العبارة الموحية من جهة..خالقة لصورها المستفزة لذهن المستهلك(المتلقي) ونبش خزانته الفكرية من اجل استنطاق النص والكشف عما خلف صوره من جهة اخرى..ابتداء من العنوان العلامة السيميائية المؤنسنة والايقونة الدالة بفونيماته الثلاثة التي شكلت جملة اسمية كشفت عن ذات مأزومة..
(لا أعرف مصدر الحساسية المفرطة التي تكمن في ظاهر وباطن وحول وأمام وخلف اصابعي..كل ما اعرفه ان هذه الاصابع التي تنتمي الي..اصابع مثيرة للجدل والاهتمام والبلاء في حياتي..هذه الحياة التي تبدأ نهارها باصابعي وتنتهي آخر الليل عند هواجس ومرارة ودفق اصابعي..انها تبكر في اليقظة وتأرق حتى الذبالة الاخيرة من الليل..
الفجر ساكن والليل ساكن كذلك..الا ان اصابعي وحدها تضج بها كل اوقاتي..هذه الاوقات التي بلا وقت يحكيها زمن يشيخ ويذوب بين اصابعي..ولا املك القدرة على تجاوز هذه المحن التي تحمل اصابعي كل اسبابها فيما احتمل انا نتائج ما تفعله بي من مرارات واوجاع وهواجس..
أخبيء اصابعي في جيوب ملابسي فاحسها تختنق وتبحث لنفسها عن متنفس فاطلقها خشية لا شفقة ولا تعبيرا ولا تجسيدا للفكر الحر الذي انادي به ويشكل موقفي وهويتي من الحياة...)..)ص5 ـ ص6..
   فالقاص في نصه هذا لا يستغرق الحلم ولا تنعزل ذاته عن العالم الخارجي من خلال توظيفه الفاظا مليئة بالحركة والحرارة والصدق..خالية من امية الكلمات والابتذال..تحمل بين طياتها ثقافة واعية تتكىء على واقعية خلاقة باسلوب فني ابداعي..يبحث عن جوهر الكلام من خلال الظواهر.. أي انه يربط ربطا جدليا بين الذات والموضوع باسلوب سهل ممتنع يجرك بعد ان يشدك بقوة فتنحاز اليه..كونه يكتب بوجدان يستوعب الحياة ومن يتنفس عليها بصدق وبنفس شاعري متناغم..شفيف يدغدغ مشاعر متلقيه ويجعله جزء من النص القائم على الاضاءة المكتنزة فكريا ووجدانيا والمتكئة على ضوابط فنية وبنيوية معبرة عن لحظة شعورية مكثفة..خالقة لحقلها الدلالي   لتحقيق زخما من التكثيف الدلالي والاسلوبي والفني المؤثر في ذهن المستهلك(المتلقي)..فضلا عن تحقيق عنصر الاضاءة السريعة للحظة المستفزة للذاكرة بما تحمله من معنى ايحائي يجرنا الى قول النفري الصوفي(كلما ضاقت العبارة اتسع المعنى).. 
 (آلمني ان اترك اصابعي الثلاثة تتفجر وحيدة عن اسوار نينوى..وانه لاقدرة لي على تقديم العون لها..والبحث عن وجودها واعادة دفنها..انتابني احساس عميق بأنني أتلاشى شيئا فشيئا..وانه ما كان من امر اصابعي هناك قد اصبح مجهولا..صرت كلي مجهولا مثل شجرة اقتلعت من جذورها والقيت على قارعة الطريق..ما كان بمقدوري ان اتحرك واغادر المكان..وما بوسعي ان اودع اصابعي واتركها للمجهول عند سور نينوى وارحل..
كان قلب طفلتي على كتفي ينبض ببطء..فيما خبزي يجف ومائي يظمأ..بينما كانت امي تكتفي بالدعاء وطلب الرحمة..وزوجتي ما زالت في حالة ذهول لغته الصمت..
 لم تفلح قدماي على حملي..أحسست بعجزي وانني مستقر هنا..مزروع هنا وليس بوسعي مغادرة المكان..فيما المكان تراب وحجارة وبعض مني مشتول هنا..الابهام والشاهد والوسطى..اصابعي التي تبصم وتشهد وتتوسطني لابقى..أبقى هذا هو قراري وامتحاني ومحنتي واصراري على البقاء كذلك..)ص63..
    فالنص تعبير مقتضب عن لحظة انفعالية بايجاز وتكثيف جملي متميز بعمق المعنى واعتماد النزعة البلاغية وتقنية الانزياح..اذ يحاول القاص ان يقدم صورة مشهدية تجمع بين المعنيين الذهني والحسي لتحقيق العمق التصويري بكل ابعاده التي تكشف عن الذات لتحفيز اثرها في ذاكرة الآخر بحوار ذاتي(منولوجي) واثبات كينونتها عبر صورها المتميزة بصفات دلالية منبثقة من نسيج مختزل..مكتنز بطاقة ايحائية متمردة على واقع يعيش لحظات الانكفاء على الذات.... فضلا عن اعتمادها تقانات فنية واسلوبية كالتنقيط(النص الصامت)..الدال على الحذف و الذي يستدعي المستهلك للمشاركة في بناء النص..وهناك تقانة التكرار الدلالة الاسلوبية التي تشير للتوكيد من جهة ومن جهة اخرى تشكل ظاهرة صوتية يصل بها النص الى ذروة التعبير عن الذات المأزومة..لذا فهي تحتضن دلالة نفسية وعاطفية خارج الذات فتعبر عن الحالة القلقة التي تداهم المنتج(القاص)..فضلا عن اضفائها نبرة مموسقة على امتداد النص الذي صارت 
لازمته..
  من كل هذا نستنتج ان(اصابع الاوجاع العراقية) نصوص سردية مستفزة للذاكرة ونابشة لخزينها المعرفي..كونها تعتمد التكثيف بمهارة مع قدرة على انتقاء الالفاظ الموحية..الرامزة..فضلا عن استنادها على مجموعة من التيمات والمحاور الدلالية التي تعكس الواقع الاجتماعي المأزوم وتداخله مع التخيل السردي ومن ثم انصهارهما في بوتقة موضوعية شكلت نصوصا سردية متكئة على لغة ذات مستويات متعددة يجمع بينها الحكائية والتكثيف والاختزال والمفارقة الاسلوبية...