صالح رحيم
«تنبثق الصورة الشعريَّة تحت شارة ولادة كينونة جديدة» غاستون باشلار- جماليات المكان.
مرة في إحدى أسواقنا، وهي سوق طويلة إلى حد ما، وعلى عادتي، حين أخترق الجموع في الأسواق، أضع نصب عيني، كل شيء، بدافع من رقيب الجمال الذي يقبع في الداخل، تكشفت لي وجوه النساء عن رؤية لم أنتبه إليها من قبل، تتعلق بالمكياج، وهنا، تنقسم النساء إلى ثلاثة، النوع الأول، قليلات الخبرة، ونساء هذا النوع يملكن فهماً خاطئاً للكيفيّة التي يتلقى بها الآخر مكياجهن، إنهن يمارسن نوعاً من إلغاء هوية مستقلة، أو إخفائها، عبر بث مشوهٍ لتفاصيل تفضح الفضاء الذي تدور فيه تلك المرأة.
أما الخبيرات، فهن نساء النوع الثاني، اللواتي يفهمن مزاج الآخر فهماً ممتازاً، وهذه النسوة، يتعاملن مع الأمر من منطلق جماليٍّ محض، ومن فهمٍ صحيح لآلياته. لكنَّ الثالثَ، وهو النوعُ الأهمّ، غير معني بالآخر تماماً، بل إنهنَّ يثقن بجمالهنَّ وفي وضع المكياج بشكلٍ طفيفٍ جداً. إلى درجة أنّنا بالكادِ نراه. أنهنَّ في حوارٌ هامس، لا تسمعه سوى الأذن المدربة على الجمال.
والحال ينطبقُ على نصوص، يتوارى تحت سطح لغتها، الحوار الهامس نفسه، ليس شرطاً وجودُه، غير أنّه مشروطٌ بالأذن الداخلية للوجود. نسمعه بالقدرة على تجاوز البناء اللغوي للنص. نسمعه ذاهباً متلاشياً كالصدى، لا بوصفه خطاباً موجهاً إلى أسماعنا. بل يشبه التعرّف إليه نشوةَ التعرّف إلى مغالق الكون بأكمله، المرئي منه وغير المرئي. إنّه في أول مرةٍ على الدوام، هو نفسه دائماً، بحُلةٍ تجدد نفسها بالقوة التي تستمدها من روح النص.
يأخذني إلى أقصى أماكن الدنيا، ويلقيني في قرارة اليقين المطلق، وفي تلاشيه تكمن أهميته. يعوّضني عن الإبحار على متن قارب أو سفينة، متعٌ لم أحظ بها في حياتي، أنالها على يده المباركة. أكتب بوصفي قارئاً طمعاً بالصوت الهامس الذي يستبطن الأشياء.
لا تستطيع تحديد الأبعاد الجماليّة فيه، إلا من خلال تذويب الكينونة، إنها أبعاد ليس لأنها كذلك، بل لأن الكينونة ذائبة. ذائبة وليست ملغاة، إنها تسبح في اللامتناهي لتتجدد.
فترى تنوعاً في الروح والممارسة القرائيَّة، قائماً بالأساس على ذوبان جوهري، جمالي.
في مواجهة النسيان، تتفنن الذات في تلقي وابداع الجمال وممارسة غير المألوف منه. لأنّه يمثل طمأنينة ومعنى.
من غيره تعيش عيشة المختل.
فنُّ استعمال الحواس، كل ما يريد العالم منا اتقانه، أن ننصت بعمق، تلقائياً ودونما جهد، عبر حواس مدربة. أن تراقب بعمق وتشم بعمق وتلمس وتتذوق بعمق. مداهمةُ الحواس بالعالم الذي اعتادته مهجوراً ونائياً أقصى أمنيات الكائن النائي.
بمقدار ما يدنو المرء من نفسه، يصبحُ الصوت أكثر اقتراباً من أذنه، وتغدو الحياة ضرباً من أثر متوحشٍ وكئيب، أثر لا قيمة له في ذاته، إنما قيمته في الإشارة إلى التجربة، وإلى قيمتها في الأساس.