معطف بالنفط الأسود

ثقافة 2023/10/17
...

 ساطع راجي


اِستيقظ كالعادة، قبل شروق الشمس، قبل اختفاء النجوم، قبل صياح الديكة، فرك عينيه ورفعهما إلى السماء، مظلمة مرة أخرى، تمنى لو أن القمر يظهر بعد منتصف الليل دائما، لا صوت في البيت، لا صوت في الطريق.. ثم سعال عابر بعيد.. مد يده في الظلام، وجد معطفه السميك، لا برد في هذا الفجر لكنه لن يتخلى عن معطفه، وكالعادة، قربه من أنفه وكأنه يريد التأكد منه، هو معطفه لا غيره، هو المعطف الوحيد في الدار، ورائحته واضحة لرجل في مهنته لكنه يشم معطفه كل يوم، يؤمن أن الليل غدار ويعرف أن الطريق طويل ولن يتحمل اعادة المعطف إلى البيت لو اكتشف بعد انتشار الضوء أنه ليس معطفه رغم أنه المعطف الوحيد في البيت، لكنه يخاف الخطأ، الخطأ يقتل والصدفة تقتل وضياع الطريق في الظلام يقتل.

مد ساقا خارج الغرفة الطينيَّة، اِنغرزت قدمه في الطين، هذه ليست مفاجأة، منذ سنين وقدمه تنغرز في الطين كلما مدها خارج الغرفة الطينية، صيفا وشتاء هذا الطين، كان يضحك من دون صوت، (وأنا طين لا أكثر، طين مغموس بالنفط الاسود الذي أشعله تحت طين الطابوق ليتصلّب، والى الطين سأعود، لا أريد العودة الآن، ما زال الوقت مبكرا.. الدنيا حلوة)، سحب سيكارة من جيب معطفه النفطي وضعها بين شفتيه وأخرج قداحة برونزيّة ثقيلة، قدح مرة وثانية وثالثة، إشتعلت.. أشعل السيكارة، مد القداحة المشتعلة أمامه ليرى الطريق بين باب الغرفة وباب البيت المؤدي إلى الخارج، قطعة طين واحدة.. ضحك بلا صوت، لبس معطفه ذا الرائحة النفطيّة ونهض من فراشه وسار خارجا.يمكنه أن يسير مغمض العينين إلى معمل الطابوق، سنوات وهو يعبر نفس الطريق، يتبلّل في نفس البرك، يسقط في نفس السواقي، تنبحه نفس الكلاب، ويسخر منه نفس العائدين من سهرهم، يغمره نفس الظلام..أو يضيئه نفس القمر، لكنه يخاف ويترقب.. يعتقد بوجود الجن والشياطين والساحرات ونساء السوء من العجائز الراغبات بفحولته رغم أنّه لم يتزوج ولم يعاشر امرأة، ويعتقد بوجود اللصوص الذين سيقتلونه رغم أنه لا يمتلك شيئا غير معطفه المغموس بالنفط الأسود. وكالعادة، شعر أن الطريق طويلة وأنه سيتأخر عن موعده، شعر أيضا كالعادة بالذنب لأن العمال جهزوا قوالب «اللِبنْ» التي تنتظر الآن الشي بينما كان هو نائما، عبر بساتين النخيل المخيفة وأمامه حقول الشعير الشاسعة، لا خوف هنا فهو اِعتاد العقارب والفئران والضفادع والأرض الزلقة ومداخن معمل الطابوق العملاقة التي تحرسه الآن رغم أنّه لا يراها لكنّها تظهر هنا واضحة في النهار، عبرَ الحقول ثم وصل إلى الارض الخلاء.. ظلام شاسع يعرف أنه سيقطعه سريعا، هذا الجزء الأخير والسهل من الرحلة، يشم رائحة الطين/ اللِبنْ من بعيد ويتخيل عربات الحمير والاطفال والفتيات.. كلهم ينتظرونه ليشعل النار ويتصلّب الطين الذي تنتظره اللوريات.

اِقترب من المعمل، تحسس جيوبه، القداحة الثقيلة موجودة، علبة السكائر في هذا الجيب، ثم (بنت الكلب زوجة أخي سرقتني مرة أخرى، لم تترك فلوس الشاي حتى.. من سنوات أتمنى الوقوف مع العمال امام الدكان وشراء رغيف وبيضة.. أولاد الكلب لا يبيعون غير التبغ بالدين.. سأشرب شايا سيئا وخبزة بالدهن لكن بعد طلوع الشمس بكثير).

دخل الموقد، أخرج قداحته، أشعل قطعة قماش مغموسة بالنفط اِشتعلت النار، كأنه يرى مدخنة المعمل تتنفس، يرى الدخان يرتفع وذرات السخام تتساقط منه على وجوه العمال والبيوت القريبة، هو فعل كل ذلك.