ختم فرويد الأسطواني

ثقافة 2023/10/17
...

  د.جواد الزيدي

 صدر حديثاً للناقد والمترجم أمير دوشي كتابه الموسوم (ختم فرويد الاسطواني)، وهو تأويل لنصه المسكوت عنه الذي يكشف علاقة عالم النفس (سيجموند فرويد) بآثار بلاد ما بين النهرين، أو العراق القديم. هذا الكتاب الذي دام البحث والتأمل فيه طوال سبع سنوات، ترجمة لنصوص وقراءات تأملية أفضت إلى هذه المقاربات النقدية، التي استطاع من خلالها تاويل العلاقة التي تكشف لأول مرة في المدونات الثقافية، اهتمام فرويد بالمقتنيات الآثارية.

فضلاً عن كونه الكتاب الأول في العربية الذي يخوض في مثل هذا الموضوع، في اعتقاد تميزت به مجمل فصوله بأن الكتاب ليس مُختصاً في التحليل النفسي أو الآثار، بل يُصنف كتاباً في الدفاع عن التراث الثقافي، وبالتحديد الثراث الثقافي لبلاد ما بين النهرين وعلاقته بالآخر، حيث (اشكالية المثاقفة وإنتاج الوعي). فطوال أكثر من 200 عام منذ بداية التنقيبات الآثارية في الشرق عموماً، وبلاد ما بين النهرين خصوصاً، مثلت هذه الأرض للوعي الأوروبي موقع غنى بالمواد الآثارية. والكتاب يبحث في تمثيلات الآثار ومفاعيلها في كتابات ومقتنيات فرويد من الكتب والقطع الآثارية والمسكوت عنه في التحليل النفسي.

 وفي ضوء ما تقدم يمكن استنباط سؤال يتمثل بتحديد فرويد للدراسة دون غيره، إذ كان فرويد قد مثل نموذجاً للعالم والمفكر المهتم والباحث في الثقافة الآثارية للحضارات القديمة في الغرب والشرق، قرأ وشاهد حضارات الشرق، غنائم الغزو الأوروبي الاستعماري الحديث، أصبحت سلعاً تُعرض في فضاء المزادات الفنية أو المتاحف الأوروبية، الحكومية والشخصية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. فقد تشكلت الجغرافية الذهنية للمغامرة الآثارية الأوربية في القرن التاسع عشر، اكتشاف المواقع الآثارية، والتنقيب ووسائل النقل والمحطة النهائية لتلك المكتشفات في مراكز الحواضر. يقدم الموقع الآثاري في الشرق على أنه مشهد أرض جدباء للعظمة المفقودة، ومصير الامبراطوريات القديمة، التي سيسكنها أناس خاملون وغير متنورين. وقد شكل الفضاء الفارغ غير المشغول إحدى الثيمات الأساسية في أدب الرحلات الأوروبية والأمريكية، التي وصفت الشرق في القرن التاسع عشر ووسائل النقل (السفن)، التي تشير إلى المهارة التقنية والقوة العسكرية للحضارة الغربية، والمحطة الأخيرة المكتشفات تقدم عبر العرض الباذخ في المتاحف والجامعات الغربية.

 ويربط بين الآثار وحركتها من مناطق التنقيب إلى رفوف المتاحف في ضوء أفكار التنوير والحداثة، التي سعت إلى إعادة تشكيل المعرفة البشرية، ما أفضى إلى اعادة تفسير الانسان لنفسه والعالم، حيث مثلت الحداثة انتقالة زمنية في التجربة البشرية وتميزت بنمو نظرية فلسفية جديدة، وكيفية جديدة للتعاطي مع الكائن البشري اجتماعياً، مع عرض خصائص الحداثة ونتاجاتها الفكرية والسياسية. لم يك علم الآثار نتاج التقنيات الحديثة والتشكيلات الاجتماعية الجديدة، بل ارتكز على سلسلة من الأفكار المركزية للحداثة من دونها لم تك ولادته ممكنة. فالفكرة الأولى: إن الإنسانية هي موضوع التاريخ. فطوال أكثر من ألفي عام كان الوجود المتشكل حول فكرة الإله الخالق، قد تم استبداله بفكرة الواقع الذي يتعهده الوعي البشري. أما الفكرة الثانية: إن العالم قد تغير، فبدلاً من أن يُنظر اليه على أنه تمظهر لأبدية ديناميكية العالم الإلهي، أصبح منظومة من المواد تحت تصرف الكائن البشري. كانت هاتان الفكرتان قد أوجدتا المفهوم الخطي للتاريخ، الذي نما فيه العقل والمعرفة وهما يقودان إلى السيطرة على الطبيعة، ما يجعل الماضي والحاضر وكذلك مستقبل الانسانية سيكون مختلفاً في بنيته وطبيعته، إذ أن التقنية هي إحدى الوسائل التي يتم بها اخضاع الطبيعة.

 ويصنف الوعي بأنه أساس الفلسفة الحديثة، إذ بات من بديهيات المعرفة الإقرار بأن منجز فرويد في دراسة النفس البشرية يعادل في الأهمية منجز ماركس أو نيتشه، فالذي يربط بينهم هو اجتماعهم على تفكيك (وهم وعي الذات)، وبعد شك الانسان في الأشياء ذهبوا إلى الشك في الوعي. وإن ما حاوله الثلاثة جميعاً بطرق مختلفة هو (جعل مناهجهم الواعية) للتفكيك تكتفي بالعمل (غير الواعي) للتشفير الذي يعزونه إلى القوة، أو الكائن البشري، والنزعة النفسية غير الواعية. بمعنى إن الانسان ليس عقلانياً كما أشاع الفكر الحديث، إنه مُستعمر من الطبقة والضعف ولا وعيه، فها هو ماركس يرفع راية التاريخ، متمثلاً بالاقتصاد السياسي، ودور الأيديولوجيا في الزيف والهيمنة، وها هو نيتشة يرفع راية الجينالوجيا، وهو فقيه اللغة الذي أصابه نوع من المرض، أبصَره بطريق ثالث للوجود، وها هو فرويد يؤسس لـ (علم الأحلام) كمنسي حداثي في ضوء فلسفات الوعي.

 وتتوافر في أعمال فرويد امكانية لدمج الآثار والاسطورة، حيث يوفر كل منها إمكانية الوصول إلى العالم البدائي للتجربة. وهذا يوضح أسباب توظيفه للغة والمسميّات الأسطورية، حين استمد منها مصطلحاته النفسية، كما هو واضح في عقدة أوديب، وكذلك تعريفه لعلم الآثار، بوصفه ليس علماً لاستعادة الماضي، إنما مقترب لاستعادة السعادة الأسطورية للطفولة المفقودة. إذ إن التحليل النفسي شكلٌ من أشكال التأويل الثقافي، فقد لاحظ فرويد أن الثقافة ابتدأت مع منع الرغبات القديمة، ومنع المحارم والقتل وأكل لحم الانسان، وتفسير النص الاسطوري القديم يُخبرنا بأن الأساطير ليست حكايات مغلوطة وغير واقعية، إذ أن الحقيقي والواقعي يختزلان إلى ما يُمكن اختياره عن طريق الرياضيات أو التجريب، لكنه يخص علاقتنا بالعالم وبالكائنات وبالكائن الفرد، هذه العلاقة التخيليَّة تسردها 

الاسطورة.

 إضافة إلى ما تقدم فإن الكتاب يستشرف قضايا مهمة تتمحور بتبادلات ثنائية تنعكس في تشكيل ذاكرة المؤرخ ومخيلته، مثل (التاريخ والذاكرة) ومقاربات صورية تعكس الفكرة ذاتها، وقراءات أدوارد سعيد للاستشراق وعلاقته بهذه المدونة، وفكرة محو الاستعمار التي طرحها (فرانس فانون) وأعقبها (البير ميمي) في وصف الاستعمار بأنه فكرة فاشية. بيد أن الأهم في هذا يكمن في التعرف على مكتبة فرويد التي تحتوي على وثائق آثارية تصل إلى ألفين وخمسمئة كتاب ووثيقة، والجزء الأكبر المتبقي من مكتبته الشخصية معروض الآن في متحف فرويد بلندن، الذي تم افتتاحه العام 1986، فضلاً عن ألفين وخمسمئة قطعة آثارية تميزت بالاختلاف والتنوع تعود إلى حضارات قديمة (عراقيَّة، ومصريَّة، وإغريقيَّة، وصينيَّة، وهنديَّة، ومكسيكيَّة).