*عادل مردان
في كتاب "سلة الرهونات" للشاعر خالد عبد الزهرة، تميّز العين العارفة ثلاثة عوالم: الشّذرات، الإيكولوجيا، والإيروتك ضمن مفهوم الشّعرية. إذ يتخيّلها شاعر الانطولوجيا بكلّ دقائقها
وتفاصيلها.
في مبحث الشّذرات يقول المعجم: الشّذور قطع من الذهب يُلقط من المعدن من غير إذابة. تعدّ الكتابة الشّذريّة لمحيّة مختصرة وموحية، يحملها الفكر التسارر إلى مغاور الوجود.
الشّذرة قريبة إلى التوقيعة وهي فنّ عربيّ قديم، يتركب من سطر واحد. تمتاز بالحيويّة والشّعور الصادم والغرابة: ( هراطقة الثعابين تدّب تحت الأغطية لا يتوفر لنا التأمّل في الأشياء الخالدة، تمرحين بقطع أجنحة الذباب، على رأسك الحجريّ تنساب فأرة طازجة، الكذبة العظيمة تخلّق العدم، قلبي المحطم يجمع الغبار، الموت سحر الأبديّة - الإنسكلوبيديا العظيمة تنقّر في ذهني).
الإكولوجيا في الكتاب تتنوّع بعدة أنساق، فتتكشف علائق الأشياء عاكسة الرؤى الفلسفيّة لتوق الرائي إلى ما يحيطه من موجودات الطبيعة، حيث تعمل على توزيع مفرداتها المتشعبة في نسوغ المتون، وتنمو براعمها تحت شبكة التوجه البيئيّ، الذي يعتبر الأحدث في تحليل منظومات الخطاب. الأشياء في صيرورة دائمة بينما تسيح ظلالها مبثوثة على البياض: الحيوان النبات المناخ مواقيت الزّمن وتراث الجيولوجيا. يتروّحن الشّاعر المسحور مع العوادي خاصة الحجارة، أليس هو حطاب الغابة المفترضة؟: ( العشب الجاف في البقع العالية من ريف رماديّ، ثمّة حلازين مقوّسة فوق الأرضيّة في غرفة الضيوف تتطلّع إلى فئران، في يوم ما ديك راح يلتقط حبّات رمانة إنكسرت إلى شظايا، ذرائعيون بقواعد عريضة مصنوعة من البلاستيك، قدميّ في المحيط ولديّ سبع عشرة حاسة وعشت عشرة آلاف سنة، عودي يا وعولي الصغيرة الغابة التي ورثتها عن أجدادي تسوّف حياتي).
في عوالم الإيروتك يتجرّد الجسد من أغلاله، الغرض وضع الأعضاء النابضة في اللحظة الحاضرة لتحرير الكائن المغلول، إلى أبعد نجمة في سماء اللازورد، بجناحين هما النرجسيّ والرؤيويّ، حيث الفضاء ينفتح إلى فضاءات، إذ كان الوجه المعبّر بأيقوناته التّسع، ثم تشقّ اللغة الباهرة طرقاً ملتوية إلى نبع الطيّات التي تخلصت من أدرانها (يختال المرء بخصله جانبيّة من شعر أسود، ثم أريتني صورة بنات إبليسيات تحت سقيفة تفسّر معتقداً قبلانياً تصحبه موسيقى القرب الجبليّة، الكمنجات تصدر لحناً بهيجاً أتعطيني الحلوة أم أقوم بخدعة، أيّها الكلب بكلّ قوة يا أنا كلانا يملك وجهاً مسطحاً وفارغاً آخذاً بالتحلل، تبدأ الشفاه تنتهي الأصابع أتحبّ شعري الأسود لما يكون مثل جناحيّ غراب).
إنمازتْ نصوص (سلّة الرهونات)، بالحذف والمنتجة والتقطيع، وكثر فيها المسكوت عنه، يؤكد فاليري: القارئ يكتب النصف الباقي. هناك مرح وفنطازيا، إذ إلتزم الشّاعر، بالشّكل الكتليّ، وهو نسق قصيدة النثر، ثم التصوّر الفلسفيّ، لشخصيات الزّمن الغابر: ( كرشنا- سقراط- ديوجين- دون كيخوته...). وباختلاف معانيها عجت صفحات الديوان، بكلمة- حياة- السّرد الشعريّ مضطرب ومتوتّر، أيضاً الغموض لبوس يغلّف النصوص، ويحافظ على ديمومتها. أحيانا يشيع الحوار المسرحيّ، تقطيع الحروف، وتغيّر حجمها طباعيّاً. أمّا التكرار فقد عزز الإيقاع، وحافظ على البداهة والألفة. ثلاثة نصوص تستوقفني، الأول- هرّي - نص يسوده التكرار المرح، وهو سياحة في فضاءات الداندي. الثاني تسلسل زمنيّ، لحياة قصيرة، للعابر الهائل بنعال من ريح، والثالث إنصات لموسيقى خالدة، حينما يتحول الطقس إلى رعب. الختام كان بنص- القلعة- فهي مكان الشّرود والتحصّن، عندما تضج العوالم بالفوضى.
لا يُشبه الرائي إلاّ نفسه، مأخوذا بفكر الشّعر، تحت مظلّته ينمو نزوعه المستشرف، وبعراقة المستغني، يتأمّل العالم، من تلك
القلعة.