أحمد عبد الحسين
كتبٌ كثيرة في تراثنا العربيّ حملت عنوان «الملاحم والفتن»، وهي كتب تؤرخ للمعارك، إذ الملاحم مصطلح للحروب التي خاضها المسلمون ضدّ أعدائهم، أما الفتنُ فهي للمعارك الداخلية والحروب الأهلية التي تقاتل فيها مسلمون؛ بعضهم ضدّ بعض.
بالضدّ من «الملحمة» التي تمجّد فيها بطولات المسلمين، فإنّ مصطلح «الفتنة» مرذول ويستعاذ منه غالباً لأنه يكسر الصفاء المتخيّل عن الأمة الواحدة والعقيدة الحقّة، وحينما يرد ذكر حرب داخلية كصفين أو الجمل وسواهما يكون الحديث أشبه بالغمغمة التي تنتهي غالباً بالترضّي عن طرفي النزاع وتختم بالآية القرآنية: «تلك أمّة قد خلت..».
دار الفلك على أمة الإسلام 180 درجة. ففي السنوات الخمسين الماضية لم تكن لدينا «ملحمة» واحدة، لكن لدينا ـ ولله الحمد ـ فتناً لا تعدّ ولا تحصى. لنسمِّ ثلاث فتن كبيرة منها: الفتنة الطائفية في العراق والتي كان ختامها داعشاً، فالفتنة اليمينيّة، ثم الفتنة السوريّة.
في الفتن الثلاث هذه وفي سواها من الفتن، كان العربُ بأغلبهم مشدودين إليها، كثير منهم كان يرى فيها بداية خلاص، وتفاعلوا معها تفاعلاً له جنبات عقائدية، فكانت معارك داعش والجيوش في سوريا محفوفة عند شطر من المسلمين برؤى قيامية وتهليل وتكبير كما لو كانت الفتنة ملحمة.
اليوم، منذ قيام الفصائل الفلسطينية بضرب قوات الاحتلال الصهيونيّ وأسر جنوده، ثم الردّ المتوحش لقوات الكيان الغاصب وشنّ حرب إبادة ضد سكان غزة، خَفَتَ التهليلُ والتكبير وانطفأت الرؤى القيامية وصار الكلام غمغمة ومداورة عن الأسباب والنتائج وجدوى القتال وموازين الربح والخسارة وهل التوقيت مناسب أمْ لا، ثم تحميل الجانبين بالتساوي وزر ما حدث من مآسٍ وما ينتظرنا من فواجع.
ردّ الفعل هذا هو بالضبط ما كان يفعله العربيّ طوال تاريخه مع «الفتنة» لا مع «الملحمة». وبالفعل فإنّ كثيراً ممن كان يرى في غزوات داعش «ملاحم» بطولية، يرى اليوم في قتال الفلسطينيين «فتنة» يرجو الله أن يقيه شرّها.
تبادلت الفتن والملاحم الأماكن، صارت الفتنة ملحمة والملحمة فتنة. فهل قلبنا كتب التاريخ رأساً على عقبٍ ورحنا نقرأ من أسفل إلى أعلى؟ أم أن الأمة كلها مقلوبة عاليها سافلها، فتنها ملاحم وملاحمها فتن؟!