خالد الحوراني.. حكاياتٌ عن الفنِّ الفلسطيني
يوسف الشايب
التعلّم في الدرجة الأولى هو ما قاد ويقود الفنّان التشكيلي البصري الفلسطيني خالد الحوراني إلى هذا العالم ولا يزال، فعبره يمكنه ملاحظة كثير من تفاصيل الحياة والوجود، كما أنّ ممارسة الفن هي طريقته في التعلّم، كونه يرى في الفن بوابة للمشاركة التي توفّر حالة مؤانسة، علاوة على كونه فعلًا تشاركيًّا لقلق الفنّان وهمومه ووجهة نظره في الحياة.
الحوراني، وخلال استضافته “مبدعًا في حضرة درويش” في متحف محمود درويش بمدينة رام الله، مساء 21 آب الماضي، أشار إلى أن الفنّ “وسيلة لنرى الحياة بطريقة أخرى، غير تلك التي تقترحها الظروف وموازين القوى... وسيلة تتيح المجال رحبًا للخيال، وللتحايل على الواقع الذي نعيشه، كما أنّه عملية حوارٍ أيضًا، وليس مقولة من طرف واحد”.
وشدّد: أعتمد هذه الاستراتيجية كمتكأ لي في ممارسة أعمالي الفنيّة، وأحمد اللهَ أنّني في بعض الأحيان قد أوفّق في خلق عالمٍ موازٍ، أو اقتراح جمالي أشعر بسعادة غامرة حين يصل إلى الجمهور، ويجد أصداءً لديهم تجاهه، فمعظم أعمالي الفنيّة ناتجة عن قصص أو تعليق أو نقدٍ ما لشيءٍ ما، فخبر صغير أو كبير قد يختمر في داخلي فكرة... بالفعل أنا أطوّر أفكاري بحواري مع الآخرين، بل إنّني أفضّل أن أنتمي للجيل الجديد، لأنني فخور جدًا بجيل الشباب من الفنانين البصريّين الفلسطينيّين، أكثر من افتخاري بالجيل أو الأجيال التي سبقته، لكوني أتعلّم منهم الكثير، وعلينا الاعتراف كم نتعلّم من أبنائنا الآن... الحقيقة أنّني أتعلم من الجيلين، الشباب والروّاد، وهذه فرصة مهمة للمزج ما بين عنصري الخبرة والعصرنة.
وما يعجب الحوراني في الجيل الجديد عمومًا، والفنانين منهم على وجه الخصوص، “أنهم يفكرون بطريقة حرّة، وينتمون لروح العصر الذي يعيشونه، مع أن جيلنا جيل مبدع، خاصة أننّا ولدنا لآباء يعانون من سياسات الاحتلال، فكان منهم المطاردون، والأسرى في الزنازين، ومن يعانون في الاقتحامات... لا أقول أننا تربّينا أو ورثنا الهزائم، فقد كان هنالك عدد من الثورات والانتفاضات، لكنّي أرى أن ثقة جيل اليوم بنفسه أكبر من تلك التي كنّا نملكها، بل إنه صبور تجاهنا، ويراعي مشاعرنا، لذا أتمنى لو أن الحياة الفلسطينية عمومًا تُدار أو تُحكم من قبل جيل الشباب، وليس كبار السن، ليس بسبب أفكار أو أيديولوجيات أو سياسات كبار السن، لكن لكون الجيل الجديد يمتلك من القدرات ما يستوجب علينا الإيمان بها، والتعلّم منها، وأعتقد أن المؤسسات التي يديرها الشباب تحقق نجاحات أكبر”.
واستذكر الحوراني: في الانتفاضة الأولى، أعتقلتُ في سجن النقب لثلاثة أشهر. أنا ممنون للحياة أن أتاحت لي أن أعيش هذه التجربة، بقصصها، وأن أعرف هذا الجانب من حياتنا كفلسطينيين، وأتعلم منه، ولكوني رسّامًا كنتُ أرسم الأسرى بالحبر على القمصان، وأتذكر أنني رسمت ثمانية وعشرين ممّن كانوا رفقتي في سجن “كتسيعوت” في النقب، واللافت أن كل قميص (تي شيرت) أرسم بورتريهًا لصاحبه عليه لا يرتديه ولا يغسله، ويتحوّل إلى عمل فنّي، وكنّا داخل المعتقل ننظم مسرحيّات، وأمسيات شعريّة، ومعارض، فاقترح أحد الأسرى، واسمه “سليم”، تنظيم معرض من القمصان/ اللوحات، وبالفعل قمنا بتعليقها داخل واحدة من الخيام في المعتقل الذي كان عبارة، وقتذاك، عن مجموعة خيام في الصحراء، فاستنفر جيش الاحتلال، وطالبنا برفع الستائر، وأطلقوا ما يشبه صفّارات الإنذار، وحين اقتحموا الخيمة، أنزلوا بعض القمصان المعلقة، وأدركوا أن لا شيء تحريضيًا فيها، وغادروه بعد أن أصدروا قرارًا بعدم استكمال المعرض، باعتبار أنّنا معتقلون لا يحق لنا تنظيم معارض، وكان ذلك غضبًا من كثافة الحضور الذي فاق المئتين وخمسين أسيرًا، ولم يتمكنوا جميعهم من مشاهدته.
وتابع: اعتقدت أن المعرض توقّف هنا، لكن أحد الأسرى من صغار السن قدّم مقترحًا غاية في الذكاء، وهو أن يرتدي ثمانية وعشرون أسيرًا القمصان، ويصبح المسرح متحركًا ومتجسّدًا، على أن يبقى هؤلاء داخل الخيمة نفسها، فكانت لوحات من لحم ودم، بل وتتنّفس أيضًا، واعتبره معرضًا خاصًا، جاء من فكرة خلّاقة ومدهشة لأسير من اليافعين، فمن قدّم الفكرة فنّان بفكره، وهذا ما يميّز جيل الشباب.
وعن الانتشار عامة، وخاصة بين جيل الشباب، أجاب حوراني على مُحاورته الإعلاميَّة رولا سرحان: ممنون لاستقبال الناس للأعمال الفنيّة، سواء أعمالي، أو أعمال الفنانين الفلسطينيين الآخرين، خاصة، أنني، وطوال انهماكي في الفنون التشكيلية والبصرية، لطالما كان يرافقني الإحساس بأنَّ هذا النوع من الفنون ليس جماهيريًّا، كما هي حال الغناء، أو التمثيل، أو حتى الشِعر في المدوّنة العربيّة، والذي يحظى بحصة كبيرة تاريخيًا في الثقافة العربيّة وتكوينها، فأنا أشعر أن الفنون البصريّة في منطقة لا تحظى بذات حظوظ الفنون والإبداعات الأخرى، وكنتُ أشفق على نفسي وعلى الفنّانين، ومن بينهم من هم كبار وعمالقة، أعتز في الاستناد في تجاربي الفنيّة إلى تجاربهم، وإلى أنني أتعلّم منهم، وأعشق أعمالهم... أنا في حالة قلق دائم، خاصة عندما أفكر في انتزاع أعمالي الفنيّة لإعجاب جيل الشباب، فهو ليس بالأمر السهل، لاعتقادي بأنه جيل لديه مزاياه واطلاعاته وثقافته ودرايته ووجهات نظره المستقلة والواعية، وهو جيل متسامح أيضًا، ويتقبّل أكثر من غيره فكرة الاختلاف... حين دَرّست في أكاديمية الفنون برام الله، كانت فرصة غاية في الأهمية بالنسبة لي لأتعلّم من جيل كان حينها لا يزال شابًا من الفنانين... أعتقد أن جيل الشباب لا يقدّم فنونًا بصريّة وتشكيليّة أفضل، بل هذا ينسحب على صنوف ومجالات الإبداع كافة، وهو يفعل ذلك بالتأكيد.
وتحدّث الحوراني عن عددٍ من أعماله التي شكلت محطات مهمة في مسيرته، وحضورًا بارزًا محليًّا وعربيًّا وعالميًا، كما تطرق إلى تلك الحالة من التمازج ما بين الفنّي والسياسي، متمثلة بعمله الفني “البطيخة”، ليقول: في عام 2007 كنت جزءًا من مشروع “أطلس فلسطين”، وكان بالتعاون مع مؤسسة فنيّة هولنديَّة، والفكرة إعادة اختراع قاموسنا، كما غيرنا من الشعوب، من وجهة نظر فنيّة، أو كيف تعيد البلد اختراع قاموسها من وجهة نظر فنّانيها، وشاركت فيه مجموعة كبيرة من الفنّانات والفنّانين، وحين فكّرنا في العلم، كنتُ سمعت قصة من الفنانين عصام بدر، وسليمان منصور، ونبيل عناني، حين أبلغهم ضابط في الإدارة المدنية للاحتلال، عندما بدأوا بتشكيل رابطة للتشكيليين الفلسطينيين، سبعينيات القرن الماضي، بالكثير الكثير من الممنوعات، ومن بينها منع رسم العلم الفلسطيني، بل ومنع رسم البطيخة لكونها تحوي ألوان العلم... حين أبلغوني الحكاية استعرت البطيخة من الخيال المريض للضابط الإسرائيلي، وقدّمت العلم بهذه الطريقة نكاية به، ورسم البطيخ ليس ابتكارًا، فهي فاكهة جميلة رسمت كثيرًا، ومنذ مئات السنين، لكنّي اقترحتها في الأطلس كعلم، ومن ثم رسمتها على جدران عدد من المتاحف العالميّة في تولوز، وغلاسكو، وسنغافورة، والأردن، وغيرها، بحجم كبير جدًا، وأتركها هناك، ومع هبّة حي الشيخ جرّاح في القدس أعيد الاعتبار إليها، للتحايل على منع قوات الاحتلال لرفع العلم الفلسطيني، فانتشرت الرسمة مُجددًا كنوع من التحايل على الاحتلال، بل إنه، وفي المظاهرات الاحتجاجية داخل إسرائيل، باتوا يستخدمونها كترميز للعلم الفلسطيني... “هنا تكمن مهمة الفن، أن نخترع شيئًا مختلفًا لا يمكن حصاره أو تقييده”.
ولفت الحوراني إلى أهمية دور الفن في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون، ليس فقط بسبب غياب الأفق على صعوبته، ولكن بسبب السياسات العنصريّة للاحتلال الذي يعمل جاهدًا “على انتزاع انسانيّتنا”، لذا علينا اقتراح بدائل ترفض هذا الواقع، أو ما يمكن أن يصبح واقعًا في وقت قريب، وهنا يأتي دور الفن في تقديم المختلف غير القابل للحصار، وهو ما يجب أن ينسحب على السياسة أيضًا، فنحن “بشر مثل غيرنا نستحق حياة كريمة، ولسنا في حاجة إلى أن نثبت ذلك لأي كان... الحياة صعبة، خاصة في ظل واقع الاحتلال الأكثر تطرفًا، لكن الفن يبعث على الأمل، أو المتاح من الأمل على أقل تقدير”.
ولم يغفل الحوراني في حديثه عن تجاربه الفنيّة المُغايرة، المتميّزة والمتمايزة، التطرّق إلى مشروعه الفنّي “بيكاسو في فلسطين”، كاشفًا أنه عام 2009 بدأ بالعمل على نقل لوحة لبيكاسو من هولندا لتعرض في فلسطين، بحيث تكون شاهدة على المعاناة الفلسطينية، تعبر الحواجز العسكرية الإسرائيلية، وترافق الجدار على طول الطريق، وأمام أعين أبرز وسائل الإعلام العالمية، التي كنت على قناعة بأنها سترافقها في رحلتها الغريبة بالنسبة للكثيرين، وفي خضم العمل على الأمر الذي تمّ في نهاية المطاف عام 2011، طُرحت عديد الأسئلة المتعلقة بما إذا كانت المتاحف تتعاطى مع فلسطين كدولة، وأخرى تتعلق بالنقل والشحن وبوالص التأمين، فالموضوع لم يكن بيكاسو، بقدر ما كان طريق لوحته إلى فلسطين، أو رحلة لوحة “بورتريه امرأة” لبيكاسو من آيندهوفن إلى رام الله بمبنى الأكاديمية الدولية للفنون، لمدة شهر، وتحت حراسة الشرطة الفلسطينية ليلًا نهارًا تبعًا لشروط شحن اللوحة إلى فلسطين، وبات الحرّاس جزءًا دائمًا من المشهد، قبل أن تعود إلى هولندا مرّة أخرى، واهتم بمشاهدتها قرابة سبعة آلاف فلسطيني من كافة المناطق، وهو ما عده انجازًا يضاف إلى الاهتمام الإعلامي العالمي الكبير بهذه الرحلة، والذي سلّط الضوء على الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال خلال توثيقه لرحلة لوحة بيكاسو.