ثالوث الرقابة

آراء 2023/10/18
...

  ميادة سفر

في مقدمة كتابه «هؤلاء علموني» كتب المفكر المصري سلامة موسى: «هناك جريمة تعلو على جرائم القتل والخيانة في الخسة والنذالة والحقارة وهي الحجر على الذهن البشري، ومنعه من التطور، بتعيين الكتب التي تقرأ، هذه هي الخيانة الكبرى للإنسانية»، ويرى أنّ «الحكومة التي تتجرأ على مثل هذه الخيانة، فتمنع كتاباً قيماً من الدخول إلى البلاد، أو منعه من الطبع والتداول، هي حكومة تخون الإنسانية وتنتهك الفكر البشري المقدس».
تحت ثالوث السياسة والدين والجنس تعلق العديد من الكتب على مقاصل المنع والحجر، وعلى الرغم من أنّ الكثير من البلاد العربية، خففت القيود المفروضة على الكتاب ظاهرياً، إلا أنّ تلك الرقابات ما زالت تمارس في الخفاء وبطرق غير مباشرة، وما زال الكثير من الكتاب يمارسون رقابة ذاتية على أنفسهم ومنتجهم الفكري، خوفاً من منعه من الانتقال من بلد إلى آخر وأحياناً منع الكاتب نفسه من السفر وحضور المهرجانات الثقافية.
تدرك السلطات الرقابية الباقية في بلادنا أنّ ما تمنعه وتحجر عليه، يجد طرقاً أخرى وإن ملتوية للوصول إلى أيدي القراء، ومع ذلك ما زالت متمسكة بتلك السلطة الواهية العديمة النفع، كثيرة هي الطرق التي بات بإمكاننا نحن معشر القراء أن نحصل بها على الكتاب الذي نرغب ونود، في ظل التطور التقني أولاً الذي أتاح الكثير من الكتب الممنوعة، فضلاً عن تنافس الحكومات فيما بينها لإتاحة كتب منعتها دول أخرى، فما الذي يمنع تلك السلطات من إعطاء متسعٍ من الحرية للكتاب والناشر وللقارئ، يختارون ما يرغبون به وينهلون من الأفكار التي تناسبهم وتتماشى مع توجهاتهم، وإفساح المجال للقانون ليأخذ دوره ويفصل في أية نزاعات أو إساءة، إلا أنّ هذا القانون نفسه غالباً ما يتواطأ مع السلطة ويضرب بسيفها.
المفارقة أنّ الكتب الأكثر منعاً هي تلك التي تدعو إلى التنوير والانفتاح والتحرر الفكري، مقابل الإبقاء على الكثير من الكتب التي تدعو للقتل بحجة أنها تراث ديني، أو تلك التي تحارب وتقلل من شأن الشخصيات المعارضة لحكومة هنا ونظام هناك، والكتب التي تبرر قتل النساء على سبيل المثال تجد السبيل ممهداً أمامها، أما تلك التي تجد في عناوينها أو مضمونها إيحاءً جنسياً، وفق زعمهم فلا يجوز السماح بها لأنها تؤثر في بنية المجتمع الأخلاقية والدينية والقيمية برأيهم، بينما القتل وسفك الدماء لا أثر لهما ولا تأثير.
لطالما استعانت الحكومات في البلاد العربية بثالوث الرقابة لتكميم الأفواه والحجر على العقول، وسلطته سلاحاً على رقاب الكتاب والمثقفين التنويرين، حيث سجنتهم وصادرت أقلامهم ومؤلفاتهم وأحياناً قتلتهم، أما الرقابة الاجتماعيَّة والدينيَّة حدث ولا حرج، ولنا في تاريخنا الكثير من الأمثلة على أسماء نبذها المجتمع لأنها لم تتماشى معه وتساير عاداته وتقاليده البالية.
لم يقتصر الأمر على المطبوعات والكتب الورقية، ففي ظل التطور التقني والتكنولوجي وانتشار منصات ووسائل التواصل الاجتماعي، استشعرت الدول الخطر يتهددها مجدداً، فمدت يدها الرقابية إلى مواقع الانترنت محاولة حجبها ومعاقبة الناشرين فيها، وأصدرت القوانين والشرائع التي تضيق الخناق أكثر فأكثر على المفكرين، فما الذي يمكننا القيام به أمام كل تلك المحاولات لإلغاء العقل؟ إنّ بلاداّ يخيفها الكتاب وترعبها الكلمة لا يعول عليها.