• طارق علي
ترجمة: نجاح الجبيلي
طارق علي: مفكر وناشط سياسي بريطاني من أصل باكستاني. وُلد عام 1943 وهو عضو في هيئة تحرير مجلة "مراجعات اليسار الجديد". درس الفلسفة والاقتصاد والسياسة في كلية أكستر بأكسفورد. مؤلف لعدد من الكتب أهمها: المركز المتشدد: تحذير- 2015، متلازمة أوباما- 2010، أحاديث مع إدوارد سعيد- 2005 تصادم الأصولية: الحروب الصليبية، الجهاد والحداثة- 2002 وغيرها.
في كانون الأول من عام 1987، اندلعت انتفاضة في فلسطين، هزّت إسرائيل والنخب في العالم العربي. وبعد بضعة أسابيع، كتب الشاعر السوري الكبير نزار قباني قصيدة "ثلاثية أطفال الحجارة"، التي شجبَ فيها الجيل الأقدم من القادة الفلسطينيين. وقد جرى إنشاد القصيدة وقراءتها في العديد من المقاهي الفلسطينية:
أطفال الحجارة..
هم الذين بعثروا أوراقنا
ودلقوا الحبر على ثيابنا
وانتهكوا عذرية نصوصنا القديمة...
يا تلاميذ غزة
لا تبالوا..
بإذاعاتنا..
ولا تسمعونا..
نحن أهل الحساب..
والجمعِ، والطرحِ..
فخوضوا حروبكم
واتركونا..
نحنُ موتى لا يملكون ضريحاً
ويتامى..
لا يملكون عيوناً
يا تلاميذ غزة
لا تعودوا..
لكتاباتنا.. ولا تقرؤونا
نحنُ آباؤكم..
فلا تُشبهونا
نحن أصنامكم
فلا تعبدونا..
يا مجانين غَزّة..
ألف أهلاً..
بالمجانين،
إن هم حرّرونا
إنَّ عصر العقل السياسي..
ولّى من زمان..
فعلِّمونا الجُنونا...
منذ ذلك الوقت، مارسَ الشعب الفلسطيني كلَّ الأساليب لتحقيق شكل من أشكال تقرير المصير البنّاء. قيل لهم: "انبذوا العنف". فعلوا ذلك، باستثناء الانتقام الغريب بعد الفظائع الإسرائيلية. كان هناك بين الفلسطينيين في الداخل وفي الشتات، دعمٌ هائل لحركة "المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات": وهي حركة سلمية بامتياز، بدأت تكتسب زخمًا في جميع أنحاء العالم بين الفنانين والأكاديميين والنقابات العمالية، وأحيانًا الحكومات. ردَّت الولايات المتحدة وأسرة الناتو بمحاولة تجريم حركة "المقاطعة BDS" في جميع أنحاء أوروبا وأميركا الشمالية- مدعية، بمساعدة جماعات اللوبي الصهيونية، أنَّ مقاطعة إسرائيل هي "معاداة للسامية". وقد أثبت هذا فعاليته إلى حد كبير. ففي بريطانيا، حظر حزب العمل بزعامة كير ستارمر أي ذكر لـ "الفصل العنصري الإسرائيلي" في مؤتمره الوطني المقبل. لقد التزم اليسار العمالي، الخائف من الطرد، الصمت بشأن هذه القضية. وهو أمر مؤسف. وفي الوقت نفسه، انضمت معظم الدول العربية إلى تركيا ومصر في الاستسلام لواشنطن. وتجري السعودية حالياً مفاوضات بوساطة البيت الأبيض للاعتراف رسمياً بإسرائيل. ويبدو أنَّ العزلة الدولية للشعب الفلسطيني ستزداد، ولا تحرز المقاومة السلمية أي تقدم. وطوال الوقت، كان جيش الدفاع الإسرائيلي يهاجم ويقتل الفلسطينيين على مهل، في حين عملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على تخريب أي أمل في إقامة دولة. في الآونة الأخيرة، اعترفت حفنة من جنرالات جيش الدفاع الإسرائيلي السابقين وعملاء الموساد بأنَّ ما يجري في فلسطين يرقى إلى مستوى "جرائم حرب". لكنهم استجمعوا الشجاعة لقول هذا بعد أن تقاعدوا بالفعل. وأثناء خدمتهم، دعموا بشكل كامل المستوطنين الفاشيين في الأراضي المحتلة، ووقفوا متفرجين وهم يحرقون المنازل، ويدمرون مزارع الزيتون، ويصبون الإسمنت في الآبار، ويهاجمون الفلسطينيين ويطردونهم من منازلهم وهم يهتفون "الموت للعرب". وكذلك فعل زعماء الغرب أيضاً، الذين سمحوا بكل هذا أن يتكشف دون تذمر. لقد ولّى عصر العقل السياسي منذ زمن طويل، كما يقول قباني.
ثم ذات يوم، تبدأ القيادة المنتخبة في غزة بالرد. إنهم يخرجون من سجنهم المفتوح ويعبرون الحدود الجنوبية لإسرائيل، ويضربون أهدافًا عسكرية ومستوطنات. أصبح الفلسطينيون فجأة على رأس عناوين الأخبار الدولية. ويشعر الصحفيون الغربيون بالصدمة والرعب لأنهم يقاومون بالفعل. ولكن لماذا لا ينبغي لهم ذلك؟ وهم يعرفون أفضل من أي شخص آخر أنَّ الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل سوف تنتقم بشراسة، بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ولكن على الرغم من ذلك، فإنهم غير مستعدين للجلوس بينما يقوم نتنياهو والمجرمون في حكومته بطرد أو قتل معظم شعبهم تدريجياً. وهم يعلمون أنَّ العناصر الفاشية في الدولة الإسرائيلية لن يكون لديها أي ندم على الموافقة على القتل الجماعي للعرب. وهم يعلمون أنه يجب مقاومة ذلك بأي وسيلة ضرورية. في وقت سابق من هذا العام، شاهد الفلسطينيون التظاهرات في تل أبيب وأدركوا أنَّ أولئك الذين يسيرون "للدفاع عن الحقوق المدنية" لا يهتمون بحقوق جيرانهم المحتلين. فقرروا أن يأخذوا زمام الأمور بأيديهم.
فهل من حق الفلسطينيين أن يقاوموا العدوان المتواصل الذي يتعرضون له؟ بالتأكيد. إذ لا يوجد تكافؤ أخلاقي أو سياسي أو عسكري بالنسبة للجانبين. فإسرائيل دولة نووية، مسلحة جداً من قبل الولايات المتحدة. ووجودها ليس مهدداً. إنهم الفلسطينيون، وأراضيهم، وحياتهم هي المهددة. ويبدو أنَّ الحضارة الغربية مستعدة للوقوف مكتوفة الأيدي بينما تتم إبادتهم. وهم، من ناحية أخرى، ينتفضون ضد المستعمرين.
• عن مجلة «مراجعات اليسار الجديد»