كيف يثق الشُّعراء بالذاكرة؟

ثقافة 2023/10/22
...

  ملاك أشرف

ينسى الناس التاريخ بسهولة أو يبقى جزء منه حسب مصالحهم وما يناسبهم ليكون حجة دامغة لاحقا، ويتبخر جزء آخر من الذاكرة وهو بالتأكيد لا ينفعهم بشيء على الإطلاق، إن الإنسان يكون قادرا فعلا على النسيان والتلاعب بالذاكرة أحيانا كفن الكولاج تماما فنرى ما يحدث قد يتلاشى ويطفح على السطح فيما بعد أو يبدو مخفيا إلى الأبد. إن تخريب الذاكرة ضرب من طموح السياسيّ وفخ ناجح للشعب الغافل، يقول ميلان كونديرا إن الحدث التاريخيّ الذي ينسى في ليلة واحدة سرعان ما يتلألأ في الغد على صفحة الحدث الجديد، فلا يعود بذلك لوحة خلفية في سرد الراوي بل يغدو مغامرة مفاجئة. كأنه لمْ يسطع ويتفرّس الساحة في الزمن غابرا أو رُبَّما ترجّل لهم من مخبئه قبل وقت قليل وحسبوه بعيدا.
يُحذر الشُّعراء الحقيقيون كثيرًا من النسيان، والذاكرة بوصفِها بيتًا طاعنًا وغادرًا لا بُدَّ من توخّي الاحتياطات اللازمة معهُ بالنسبةِ لهم، فكانوا دائمًا الأذكى والأثقف من غيرهم، يعدّهم كونديرا أصحاب برامج ثقافيّة واجتماعيّة عظيمة إلى جانب فكّرهم الوقّاد آنذاك، وأولئك الذين يعارضونهم ليسوا سوى حفنة لم يتبقَ لديها إلّا بضعة مبادئ وأشياء مُتآكلة ضجرة ترقّع حياتهم وثقافتهم المُزيفة بقتامةٍ وفشلٍ لا شكّ (1)، وعليهِ فإن مَن يصرح بهذهِ الطريقة يُطرد بشكلٍ أبديّ من قبل المَسعورين، هذا ما تعرّض له كونديرا والشُّعراء الشيوعيون على وجه الخصوص مرارًا وتكرارًا، عندما واجهوا التعذيب ثمَّ قرّروا أن يتخذوا العذاب سبيلًا نبيلًا وفلسفيًا وهو مصيرٌ لا يستطيع المرء اختزاله بسطرين أو ثلاثة، إنّما بعُمرٍ طائلٍ وحالم لا جدوى منهُ، يأبى حتّى أن يمنح صاحبهُ ما يرغب وما يتطلّع إليهِ بجديّةٍ كُلّما تعاقبت الساعات.
تشغل الذكريات كُلّ حاضرهم ومُستقبلهم السيء منها والجيّد على حدٍّ سواء، ليسَ بوسعهم محو أيّ أثرٍ مهما حاولوا جاهدين التخلّص منه، ما قاموا بهِ لم يكن يمثّل واجبات ساذجة تمحوها الممحاة ببساطة وحسب، بل مناهج راسخة بات يقرأها الجميع ويُعلق بإسهابٍ عليها الآن، حيث يصعب تمزيقها ورميها في الماء بلا تفكير أو اهتمامٍ كبير ولا يمكن الاستهزاء والسخرية منها ولو اصطناعًا أيضًا!
اعتنى الشُّعراء أثناء حركتهم بالمواقف والأفكار الثقافيّة والسياسيّة الصارخة القويّة في الآونة الأخيرة وعلى الرغم من صراخها، إلّا أنها ظلّت صرخة غير مسموعة، إذ لَمْ يأخذ أحدٌ كُلّ آرائهم على محملِ الجدّ؛ لذا ممّن يُنادي على نحوٍ شديد يُشبهونه بصراخ الشيوعيّة المُهمل لا مُحال ومَن يعبئ ويثقل كاهلهُ بالذكريات يصبح شيوعيًّا من حيث الذاكرة العريقة والتعب المُبرّح معًا. فضلًا عن كونهِ مثاليًّا لا يثق بأمرئ ولا يسير مع القطيع الأعمى حتّى لو كانَ يعيش منفىً قاسيًا وغربة تمتدّ إلى خريف حياته.
عجبتُ أنني وأخيرًا وبعد مُحاولاتٍ حزينة بائسة أكتبُ على ورقةٍ مُستقلّة عن ذاكرتهم الحادّة، الّتي لا يستطيع الشاعر أن يدمرها أو يلوّنها بشكلٍ كاملٍ إطلاقًا كما لو أن الحياة لا تعني لهُ شيئًا والعالم لن يصيرَ بالنسبةِ إليه سوى عائق يعرقل حركتهُ فقط بتعبير كونديرا. كأنّهُ يمضي وحيدًا في النهاية، حاملًا بصيرته وذاكرته المُتورمة من تراكم أحداث الأيّام الخبيثة والدميمة وتكدّس الكتابات معهُ، يسيرُ ولا يُبالي بخذلانها لهُ أو لا يعجبهُ تغيير أمر مُترهّل وشائن مثل السابق.
لَمْ يكن يعينه على الوحدة غير تلكَ الذاكرة الّتي هي جوهر فعل الكتابة وأساس عمل الشاعر والمُثقف الكاتب عامّةً، الذي يدرك قيمتها وأثرها في معاني الأشعار لذلك لا يخونها ولا يخون نتاجه لكنهُ يتوجّس منهما، على ما يبدو سوف تظلّ الذاكرة موتًا وخلاصًا للفرد -بغضّ النظر عن انتمائه- في الوقت نفسه.
يقاوم الإنسان كنايات الآخرين وخطاباتهم المُموّهة وسلوكياتهم المشكوك فيها إلى جوار ذاكرته ولهاثه باستمرار، فمَن هو أقوى عدو لهُ؟، كيف يميز بينَ الاثنين ومدى تأثيرهما فيه؟، بينما يُنازع الشاعر كي يخرجَ الجميع من ذاكرتهِ، يطردونه من ذاكرتهم في لحظاتٍ ومن دون تأمّلاتٍ أو تساؤلات حولَ فحوى شِعره وجدواه الحقيقيّ. ترتسم في عين الشاعر رغبة مَن يريد أن يقتلَ كُلّ شيءٍ ولا يمكنهُ أن يُحركَ شيئًا، لَمْ تكتفِ الذاكرة بدفعهِ إلى مناطق الحزن والغياب المحترف قط، بل دَأَبَ الآخرون على التخلّص من الكُتّاب والشُّعراء المُرهفين من خلال التغاضي عنهم، إهمالهم والنظر إليهم بشزرٍ لئلّا يظفروا بالهناء يومًا ما، قد حققوا هذا أكثر فأكثر لذا لَمْ يتبقَ للشاعر إلّا الشِّعر، الذي يخشاه ويحبّهُ في آنٍ واحد.
تلعب خدعة الذاكرة بثيمة الأيّام عندَ الشُّعراء أسرع من يديهم، إذ تُحدّد مسرحيتهم الشِّعريّة كيفما تشاء ولا سلطة مفروضة لإيقافها أو التقليل من تدفق سيل الشفقة عليها، إنهم يعيشون مُتكئين على ذاكرتهم من جهة والهروب بالتحايل والترويض من جهةٍ ثانية، الذاكرة هي وجودهم الفاقد للاستقرار وشكل من أشكال الصبر بما أنها بيت الماضي الشائك. الذاكرة بمثابة السكين الطاعنة الملعونة إذا احتفظت بما لا يريدونه وهي بمثابة النعيم المُوّرد والمُنعّم إذا أغفلت عمّا جرى تلقائيًا، فهم يعيشون ويموتون من خلالها ويُشكون في تلفها وانعدام تواصلها بكلا جانبيها المُحبّ والكريه، وبكُلّ سكانها الطيّبين والمُميتين.
لن يثقَ الشُّعراء بالمساحة الزاهيّة تارةً والمقبرة تارةً أُخرى: ‏”لديّ اليوم أشغالٌ كثيرة/ يجب أنْ أقضي بشكلٍ كامل على الذاكرة/ يجب عليَّ أن أتعلمَ الحياة من جديد”. تقول الشاعرة آنا أخماتوفا مُستاءةً من ازدحام الذاكرة الذي يُعيق استكمال مسار الحياة بهدوءٍ ورأفة. في حين قالت الشاعرة الأميركيّة ماري هاو (Marie Howe) على أفضل وجه: “الذاكرة شاعرة وليست مُؤرّخة”. إذن حينما نقول ذاكرة الشاعر يعني أننا ينبغي ألّا نتواصل مع ما مضى وإن تواصلنا لا بُدَّ أن يكون الأمر بحذر، والحلّ -على الرغم أن لفظة حلّ ليست معروفة تمامًا في الأصل- كما ينصحنا كونديرا منذُ البداية هو ألّا يأخذ الشُّعراء الذاكرة الجارحة على محملِّ الجدّ من المُفترض!.
لن يحيا سوى مَن نسى الذاكرة باعتبارها نهرًا يجري إلى الوراء، لن يحيا سوى مَن أهملها وزجرها فالإهمال أو الإقصاء يومئ بالراحة والطقس المُلائم والمُراد من قبل الذات الشِّعريّة والشِّعر الترابطيّ مقارنة بالشِّعر الانفصاليّ لا ريب.
تكتب الشاعرة ماري هاو أن الذاكرة هي واحدة من أصعب الأشياء في كوننا بشرًا، حيث لا يمكننا إلّا في بعض الأحيان التحكّم فيما نتذكره وما ننساه، على هذا النحو كانَ موضوعًا مُفضلًا للشِعر منذُ فترةٍ طويلة، حيث يحاول كُلّ سطرٍ منه استخلاص بعض الأفكار حولَ ما يعنيه تذكر شيء ما وما يعنيه فقدان الذكريات. تقدّم الكثير من القصائد منظورًا فريدًا للذاكرة، بما أنها تنظر إلى الماضي من وجهات نظر مُختلفة، مُتذكّرة الأحاسيس، الأحداث، الأشخاص والأماكن والأشياء التي يشعر المتحدّث بأنّها مرتبطة بها؛ ممّا يخلق شبكة من الزمن تدوم إلى ما هو أبعد من الشّاعر ونفسيته المُطاردة بسببها.
أنا أفهم الذاكرة دائمًا على أنها غير موثوقة أو غير مُؤكدة وإن كوّنت قصائد بناءً على مواد الماضي، فإن هذهِ المواد غالبًا ما تكون مُجرّد خيالات، لا يجدر بنا حراستها والتعويل عليها باستثناء الذاكرة الشِّعريّة التي تهدف إلى الحفاظ على ما يمس قلوبنا ويبهر عقولنا بصورٍ ساحرة من نوعها، حينها سندرك أن الذاكرة موجة مُتمرّدة لا مفرَّ منها نتيجة الماضي غير المُستمرّ، تجلب معها الوحدة المديدة ذات المشاعر المُتضاربة على الدوام.
الهامش:
(1) مقولة كونديرا بتصرف.