نصر حامد أبو زيد قارئاً لابن عربي

ثقافة 2023/10/23
...

  د. حيدر عبد السادة جودة

للمفكر المصري الشهير نصر حامد أبو زيد، اهتمامات بالغة في طبيعة التعاطي مع النص الصوفي، وقد يعود لطبيعة المنهج الذي حكم أبو زيد في قراءة النص والتراث، العلة الرئيسة في ضرورة البحث عن تراث الشيخ الأكبر. فقد طرح مشكلة النص الأكبري في كتابين مستقلين، الأول والموسوم بـ (فلسفة التأويل - دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي)، والذي كان لاحقاً لما انتهى إليه أبو زيد من دراسة (قضية المجاز عند المعتزلة)، وقدمه كرسالة لنيل شهادة الماجستير، وقد انتهى في الأخير إلى أن المجاز تحول في يد المتكلمين إلى سلاح لرفع التناقض المتوهم بين آيات القرآن من جهة، وبين القرآن وأدلة العقل من جهة أخرى. وقد كانت هذه النتيجة هي الأساس الذي حدا بالباحثِ إلى محاولة استكشاف منطقة أخرى من مناطق الفكر الديني، وهي منطقة التصوف، لدراسة تلك العلاقة بين الفكر والنص الديني واستنكاه طبيعتها ومناقشة المعضلات التي تثيرها، وذلك استكمالا للجانبين الرئيسين في التراث: الجانب العقلي كما يمثله المعتزلة، والجانب الذوقي عند المتصوفة».

أما الكتاب الآخر عن ابن عربي، فقد كان بعنوان: (هكذا تكلم ابن عربي) فبعد أن أتمَّ أبو زيد رسالته المذكورة سلفاً -فلسفة التأويل- أراد أن يعيد كتابتها بطريقة أخرى تبرز قضايا التأويل لتحتل «متن» الرسالة، في حين يكفي «الهامش» للتعامل مع القضايا ذات الطابع الفلسفي البحت. 

فجاء كتابه الموسوم بـ «هكذا تكلّم ابن عربي».

ويُمكن عدّ السبب الرئيس في ضرورة استدعاء نصر حامد أبو زيد للنصوص الروحانية -ابن عربي أنموذجا، إلى أن الأخير قد يُمثّلُ مطلباً مهماً وملحاً، لعلنا -كما يشير أبو زيد- نجد في تجربته ما يُمكن أن يُعدُّ مصدراً للإلهام في عالمنا الذي سبق أن ألمحنا لبعض مشكلات الحياة فيه. 

من ثمَّ فإن التجربة الروحيَّة هي مصدر التجربة الفنية -الموسيقى والأدب وكل الفنون السمعية والبصرية والحركية- فهي الإطار الجامع للدين والفن. 

وفضلاً عن الأهمية التي يلعبها ابن عربي باعتباره همزة الوصل ما بين التراث الصوفي والفلسفي؛ فإنّ استدعاء ابن عربي في السياق الإسلامي- واستعادته من أفق الهامش إلى فضاء المتن مرة أخرى- يعود إلى سيطرة بعض الاتجاهات والأفكار والرؤى السلفية على مجمل الخطاب الإسلامي.

ويطرح أبو زيد في كتابه (هكذا تكلّم ابن عربي) التساؤل التالي: ماذا يمكن أن يقول ابن عربي في القرن الواحد والعشرين، من وراء ستار القرنين الثاني عشر والثالث عشر؟».

ونحن نسأل، ما هي الأهمية التي يكتسبها النص الصوفي لابن عربي؟، ويجمل أبو زيد تلك الأهمية بما يلي:

1 - أهمية ابن عربي نفسه ودوره في تاريخ الفكر الإسلامي، فضلا عن استكمال الجانبين الرئيسين في التراث: الجانب العقلي عند المعتزلة، والجانب الذوقي عند المتصوفة.

2 - إنَّ دراسة ابن عربي نفسه تثير بشكل واسع معضلة التأويل، كما تنعكس هذه المعضلة في التفسيرات المختلفة والمتعارضة أحياناً والتي طرحت لفكر ابن عربي وقيمته.

3 - إنَّ دراسة التأويل عند ابن عربي، ليس مجرد وسيلة في مواجهة النص بل هو منهج فلسفي كامل ينتظم فيه الوجود والنص معاً، ومن ثم فإن ابن عربي يطرح لنا فلسفة في التأويل قد تساعدنا على كشف الجوانب المتشابهة في فكر غيره، سواء السابقين عليه أو التالين له.  

 هذه الأسباب، بحسب قول أستاذنا الدكتور علاء جعفر في كتابه المهم (إشكالية النص الصوفي)، تكشف لنا عن أهمية ابن عربي، بوصفه، كما يقول أبو زيد نفسه، همزة وصل بين السابقين واللاحقين من المتصوفة، فقد تضمنت تجربته، مجموعة من المفاهيم والتطورات عند سابقيه وهو بتجربته قدّم من خلال تلك المفاهيم والتطورات مركّب جديد هو ما يُدعى بالتصوف الحكمي، وذلك بتأويل التجارب السابقة عليه، وهذا ما ساعده على تبديد كثير من الغموض الذي يكتنف تجاربهم، ولعل في مقدمتهم (الحلّاج)، لهذا تقوم قراءة أبو زيد على هذا المجال الذي يرى فيه، أنّه اختزال كل تجربته الصوفيّة والفلسفيّة، لذلك يحق لنا، كما يقول الدكتور علاء جعفر، أن نصف قراءة أبو زيد بـ تأويل التأويل، فهي قراءة قائمة على تأويل ابن عربي، بوصفه المؤول الأعظم لروحانيَّة 

الإسلاميَّة. 

 وفي قراءة أبي زيد التأويلية للنص الأكبري نجد أنفسنا ننتقل في جغرافيا الوجود واللغة والإنسان، وهذه الجغرافيا غير منبسطة، بل هي رحلة في أرض وعرة لا يذلل المسير فيها سوى التأويل، ويبقى شرط النفاذ من الظاهر الحسِّي المتعيّن إلى الباطن الروحي العميق، وآليات تأويله لا يقوم بها إلا الإنسان الكامل، فهو الكون الذي اجتمعت فيه حقائق الوجود وحقائق الألوهيَّة في الوقت نفسه.

إنَّ الإشكالية الأساسية التي تبرز في القراءة التأويليَّة لنصر حامد أبو زيد، هي إشكالية الثنائية ما بين التأويل والوجود، وتبعاً لأبي زيد، يحاول ابن عربي أن يسدَّ ثغراتها من خلال مجموع الوسائط التي هي مراتب الوجود، وقد قسّمها أبو زيد إلى أربع مراتب كل مرتبة تضمُّ مجموعة من الوسائط، وهذه المراتب هي:

- المجموعة الأولى: وهي البرزخ الأعلى أو برزخ البرازخ أو الخيال المطلق، وتندرج في هذه المجموعة وسائط الألوهية والعماء وحقيقة الحقائق الكلية والحقيقية المحمدية أو العقل الأول أو القلم الأعلى، الألوهية هي الوسيط الذي يجمع بين الذات الإلهية والعالم من حيث أن الألوهية هي مجموع الأسماء الإلهية الفاعلة في العالم... أما العماء، فهو يمثل وسيطاً من نوع آخر بين الوجود المطلق والعدم المطلق، إنه وسيط حالة الإمكان التي توجد فيها بالقوة لا بالفعل أعيان الموجودات.. في حين تمثل حقيقة الحقائق الوسيط العلمي الكلي، إنها الحقائق الكلية المعقولة التي تجمع بين القدم والحداثة.. أما الحقيقة المحمدية أو العقل الأول أو القلم الأعلى فهي وسيط بين ثنائية الله والإنسان.. هذه الوسائط الأربع تتوحّد في فكر ابن عربي، وتعد مستويات مختلفة لحقيقة واحدة يطلق عليها البرزخ الأعلى أو برزخ البرازخ أو الخيال المطلق، ووظيفة هذا الوسيط الأساسية هي التوسط بين طرفي الذات الإلهيَّة والعالم. 

- المجموعة الثانية: هي ما يطلق عليه أبو زيد بعالم المعقولات أو عالم الأمر كما يسميه ابن عربي، هذا العالم يتوسط بين عالمي الخيال المطلق وعالم الخلق أو العالم المادي بمراتبه المتعددة.. ويندرج في هذه المجموعة أربع وسائط تمثل أربع مراتب ينتمي أولها إلى عالم البرزخ، وهو العقل الأول أو القلم الذي هو أول مبدع في العماء، وينبعث عن هذا القلم اللوح المحفوظ أو النفس الكلية ثم الطبيعة والهباء اللذان ينتجان بدورهما أول عالم الأجسام وهو الجسم الكل أو العرش الذي يمثل آخر مراتب عالم الأمر وأول مراتب عالم الخلق.

- المجموعة الثالثة: وتبدأ بالعرش أو الجسم الكل، وهذه المجموعة بدورها تتوسط بين عالم الأمر والعالم الحسّي المشهود، وهي في ذاتها تمثل عالم الخلق، وتقع في أربع مراتب، هي: العرش والكرسي والفلك الأطلس وفلك الكواكب الثابتة.. وهذا العالم يعد علة لكل ما يحدث في عالم الطبيعة والاستحالة، لأنه يتضمن في إهابه كل التدرّجات السابقة عليه، ويستمدّ علومه ومعرفته من عالم الأمر، ومعنى ذلك أن هذا العالم يمثل بدوره وسيطاً بين عالم الأمر وعالم الحس والشهادة من الناحيتين الروحيّة والطبيعيّة على السواء.

- المجموعة الرابعة: وتتمثل في الأفلاك السبعة المتحركة من السماء السابعة إلى السماء الأولى إلى الأرض التي يسكنها الإنسان خليفة الله وآخر الموجودات الحسّيّة، والذي يعد في نظر ابن عربي الكون الجامع الصغير الذي اجتمعت فيه كل حقائق العالم الطبيعية والروحية من جهة، والذي يمثل أكمل المجالات الإلهية لإيجاده على الصورة من جهة أخرى.

وينتهي أبو زيد إلى أن هذا التصور لترتيب الموجودات من أرقاها (عالم الخيال المطلق)، إلى أدناها (عالم الكون والاستحالة)، لا يقوم على أي تدرّج زماني أو مكاني في نظر ابن عربي، بل الأحرى القول أنّها كلها مراتب مختلفة وتعينات متعددة لحقيقة وجوديّة واحدة تنقسم بالنظر والاعتبار، ولكنّها في ذاتها غير منقسمة أو 

متعددة.