سالم مشكور
«لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» شعارٌ اعتمده النظام السابق خلال السبعينيات، وكررها إعلامه إلى حد الملل.
لم تكن هناك حرب ولا معركة، لكنها جاءت في سياق التوظيف السياسي للقضايا القومية وفي مقدمتها فلسطين.
تسلطت أنظمة مستبدة على دولٍ عربيَّة بينها العراق، وقمعت حريات شعوبها وقتلت مواطنيها باسم «المعركة مع العدو»، ودمرت اقتصادها تحت شعار التعبئة للحرب مع الكيان الصهيوني، في ذلك الحين كان ذلك الكيان يترسخ بأمان، ويبني اقتصاداً وتكنولوجيا متطورةً، وينشئ جامعاتٍ ومراكزَ بحوثٍ ودراساتٍ تستهلك جزءاً كبيرًا من ميزانيته السنوية.
بموازاة ذلك كانت عملية إشغال الدول الرئيسة في المنطقة بحروب ومشكلات داخلية، وإرهاب مدعوم من تل أبيب وحكام قادوا هذه الدول إلى المهالك، بينما تمَّ تدجين المنظمات الفلسطينيَّة التقليديَّة.
هكذا بات الجيل الجديد يقول: ما لنا وفلسطين، ولماذا نقدم لها نحن وأبناؤها طبّعوا أوضاعهم مع المحتل؟
بات هؤلاء يتحدثون عن التطور التقني و»الحضاري» في إسرائيل، ويقارنونها بما في بلداننا من تخلف وجهل وفقر.
انقطع الجيل الجديد عن فلسطين، ولم يعد أحد يتابع أو يسمع عمّا يعانيه الفلسطينيون في الداخل من ظلم وحصار واعتقال وقتل.
ما تتعرض له غزة اليوم أعاد فلسطين إلى الوجدان، ليس العربي فقط، هي ليست قضية عربية، كما صورها القوميون فحجموها، وليست قضية إسلامية كما يسميها الرافضون لتحجيمها في الإطار العربي، بل هي قضية إنسانية تمسّ وجدان كل انسان طبيعي متحرر من القسوة والوحشية المغلفة بالأساطير المفتعلة.
هكذا نرى التعاطف مع ضحايا القصف ليس العشوائي، انما المستهدف للمدنيين بقصد الإبادة، يشمل أرجاء الدنيا، ومن أناس بهويات عرقيَّة ودينيَّة وسياسيَّة وثقافيَّة مختلفة، يجمعها إطار واحد هو الإنسانية.
هناك يهود يتظاهرون ويصرخون متضامنين مع الفلسطينيين عموما، والغزاويين خصوصا، وأميركيون ضد السياسة الأميركية الداعمة لإسرائيل، وهكذا حال سياسين ومثقفين في أوروبا وأميركا اللاتينية.
أبعاد ما يجري في غزة من جريمة تهز كل ضمير حي، تعطي لشعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» مصداقية وروحا جديدة.
فهناك معركة حقيقة، وهناك ضحايا من المدنيين يسقطون بقصف وحشي.
هناك لا جدوى من أي حديث أو كتابة غير غزة وما يجري فيها، وما أنتجته من حالة هياج أميركي أوروبي رسمي لدعم الوحشية الإسرائيلية بحجة الحق في الدفاع نفسها.
باتت مصاديق المفاهيم مقلوبة، فالهجوم دفاع، والضحية هو المدان، بينما الجاني هو المظلوم، في حملة دعاية واسعة ساحتها الإعلام الغربي برمته لقلب المفاهيم وغسل أدمغة المتلقين إلى درجة أنها دفعت عجوزا أميركيا إلى ذبح طفل مسلم تستأجر عائلته غرفة في بيته، متأثراً بأكذوبة ذبح أطفال إسرائيليين التي روّجها الإعلام.
يركز الإعلام الغربي على أنَّ ما تقوم به إسرائيل -على فظاعته- هو رد فعل على ما فعلته حماس في السابع من هذا الشهر بهجومها، الذي أسقط هيبة المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية.
يتجاهل هذا الإعلام عامداً حقيقة أن هجوم حماس هو رد الفعل على الحصار والقتل المستمر للفلسطينيين في غزة ورام الله.
ألمانيا التي قتلت اليهود في أفران الغاز حسب الرواية المتداولة، تقدم اليوم دعمها لإسرائيل، وهي تبيد المدنيين الفلسطينيين.
بريطانيا التي سلمت أرض فلسطين إلى الصهيونية لإقامة كيان عنصري يطرد أهل الأرض أو يقتلهم، جاء رئيس وزرائها إلى تل ابيب باكيًّا مواسياً لنتنياهو، بينما كانت الصواريخ تنهال على أهالي غزة، بل إن وزيرة داخليته أمرت الشرطة البريطانية باعتقال من يحمل علم فلسطين، فسخرت الشرطة منها وخرج عشرات الآلاف من المتظاهرين حاملين العلم الفلسطيني.
رغم الحملة الدعاية الصهيونية المدعومة غربياً، إلّا انها تواجه حالة صحوة ومواجهة في أنحاء العالم.