رعد أطياف
ظلت بعض «النخب» العربية تحلم بالنموذج الغربي دون أن تناله.
واستباحت لنفسها كل أشكال الأمل بغية اللحاق في ركب النخب الغربية.
وقد تُوّجت هذه الآمال بمقولات هي للحلم أقرب منها للواقع، ومن هذه المقولات الشهيرة: لماذا لا «نتصالح» مع «إسرائيل»؟
ضمن هذا المنطق يغدو العرب أقوام من «الغزاة» دخلوا على اليهود واستباحوهم وأبادوهم وقذفوا بهم في معسكرات الأسر.
وتكون غزّة، والضفة الغربية، والجولان، أراضٍ أجنبية استحوذ عليها «الغزاة العرب»، ويكون الستة ملايين فلسطيني المتناثرين في دول العالم عبارة عن «زيادات» بشرية ينبغي تشتيتهم في بلدان الأجنبية ليتحولوا قرباناً لفرسان التطبيع.
المشكلة ليست هنا، فالأحلام الزائفة مرض مستفحل يصعب الفكاك منها، وإنما تكمن المشكلة هنا وبالذات: لا يزال الكثير من «المتعلمين»، لاسترضاء الغرب طبعاً، يدينون الإسلام كونه دين «سيف» وتوسعي، ومجموعة من «الغزاة».
هؤلاء لا يرتاح لهم بال إلا باسترجاع وتدوير أربعة عشر قرناً، لكن يعز عليهم كثيراً استرجاع قضية محورية وعالمية لم تتجاوز السبعة عقود.
لكن، وعلى خلاف كل الأحلام الزائفة، كل يوم تثبت لنا الوقائع أن سياسات القوة وحدها من تحدد قيمة الاستقلال والتحرر، أو ما يسمى «حقوق الإنسان».
حين يتعلق الأمر بالمصالح الحيوية للدول الكبرى (ومن ضمنها الإذلال المتكرر للفلسطينيين)، فسيكون،على سبيل المثال وليس الحصر، قتل الناس بالجملة، واقتلاعهم عن أرضهم لضمان أمن إسرائيل أمر «طبيعي»، لكي ينعم «المدنيون» في «تل أبيب» بالحماية الكاملة على حساب حياة الفلسطينيين التي لا تشكّل أي قيمة في الضمير العالمي، فكل شيء يجري حسب «الشرعية الدولية» حتى لو قتل عشرات الأبرياء، فالتهمة هنا جاهزة، وهي الدفاع عن النفس! وبعد كل هذا المسلسل الوحشي تتفجر حمم الخطابات الرسمية، لتعلن تضامنها النرجسي مع الفلسطينيين المغضوب عليهم.
والحقيقة في مكان آخر تماماً، وخلاصتها: لا يحتاج الفلسطينيون إلى مثل هذه الصيغ التضامنية المفرغة من معناها، وإنما يحتاجون إلى فك الخناق، ونيل حقوقهم المشروعة، وعودة اللاجئين إلى وطنهم.
إن الفلسطينيين أكثر خبرة في الصيغ العملية، لإثبات وجودهم على أرضهم: سيترجمون الشرعية الدولية على الأرض بلا لبس أو غموض، لأنهم خبروا جيداً ماذا تعني سياسات القوة، ذلك أن الضعيف لا يمتلك ترف التفاوض ما لم يظهر أنيابه الحادّة (هذه سياسة الغرب بالتحديد).
على أي حال، إن كانت ثمة فائدة من هذا الألم الذي يفوق الاحتمال والذي يتعايشه الفلسطينيون هذه الأيام، أمام تواطؤ دولي مشين، وهي فائدة باهظة الثمن كانت حصيلتها كالتالي: أن الضعيف لا مكان له في هذا العالم، وأن القيم الغربية مصممة خصيصاً للشعوب الغربية، وأن ضمان أمن إسرائيل في هذه البقعة المغضوب عليها هو الأولوية القصوى، وينبغي تفتيت كل البلدان العربية وتدمير مؤسساتها الحيوية، وإغراقها في دوامة من الحروب الأهلية، ومن ثم القبول بالأمر الواقع والاستعداد لنسيان الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني تماماً.
ليس هذا فحسب، وإنما لا يحق لأي عربي أن يتكلم بالحرية والديمقراطية... إلخ! ربما سيرجع المفتونون بالنموذج الغربي، الذين يحلمون بتطبيق هذا النموذج في البلدان العربية، إلى رشدهم، ويدركون أنهم مواضيع هامشية بالنسبة لدول المركز، وهم ليسوا سوى منابع للطاقة ومناجم للثروات الطبيعية.
نظرة واحدة إلى السياسة الخارجية للغرب المنافق وسنعرف كيف تتسع رقعة هذا الهامش: لقد تباكى هذا الغرب المنافق على أوكرانيا، ولا يزال، بينما يموت الفلسطينيون بالجملة بعمليات إرهابية جبانة أمام صمت الغرب.
أنه أمر خارج كل السياقات العقلانية والمنطقية، وهذه الأخيرة لا تتعدى حدود الدول الغربية بالطبع، وما عداها يغدو كل شيء هامشياً ومستباحاً وهدفاً للموت في أي لحظة.