ثامر عباس
إذا كانت منطلقات الماضي تؤطر معطيات الحاضر، فان مؤشرات هذا الأخير ستقرر – بالمقابل - خيارات المستقبل. ومن منطلق هذا القانون التاريخي الغائب عن أفق وعينا التاريخي، يمكن للمرء أن يتوقع أي مصير مفجع سيؤول إليه المجتمع العراقي وهو يتطلع إلى تخوم القادم من الأيام. إذ ليس هناك من ينكر أن الحالة/ الوضعية التي يشهدها واقع العراق الحالي – رغم كل ما يقال عن الأسباب – ما هي إلّا نتاج عقود متطاولة – إن لم تكن قرونًا متقادمة – من القمع السياسي، والردع النفسي، والتجويع الاقتصادي، والتبضيع الأخلاقي، والتركيع الإنساني، التي أناخت بوطأتها ليس فقط على إرادة ووعي وكرامة الإنسان فحسب، بل وكذلك طالت مقومات وجوده الاجتماعي والتاريخي والحضاري.
بحيث استحال إلى كائن هلامي لا هوية له ولا انتماء، تتقاذفه تيارات متلاطمة من التجهيل السياسي والتضليل الثقافي والتهويل الديني.
ولغرض الوقوف على الأسباب المانعة لتعافي المجتمع العراقي من أمراضه وعلله المستديمة، والتشخيص الدقيق للعوامل المعيقة لنهضته والمانعة لتطوره والحائلة دون تقدمه، فقد استخلصنا بعد بحث وتأمل في ميادين الجغرافيا والتاريخ والسياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والدين، إلى نتيجة مفادها بأن مشكلات العراق واشكالياته تتمثل بثلاثة معوقات أساسية مستعصية لا سبيل إلى حلها وتخطيها دون اختراق بنيتها واستعراض مضامينها ومعالجة تراكماتها، نوجز مضامينها على النحو التالي:
المعوّق الأول ونلخصه بحالة (التباس سرديات الماضي): وهو ما يتمثل بمظاهر تشظي الجماعات وتذرر المكونات إزاء مواقفها من مواريث الجغرافيا والتاريخ والدين والثقافة والهوية، التي شكّلت عبر تفاعلها وتواصلها ما يسمى بـ (الكيان) العراقي، كما وتمخض عن سيروراتها ودينامياتها ما يعرف بـ(بالمجتمع) العراقي.
إذ لا يخفى ان تاريخ معظم الجماعات العراقية القديمة والحديثة، لا يعدو أن يكون سلسلة متواصلة ومتوارثة من الحساسيات المتبادلة والكراهيات المتقابلة إزاء نظرتها لتلك المواريث، وكذلك حيال تعاطيها مع سردياتها، والتي نادرًا ما اتفقت جماعة من تلك الجماعات مع نظيرتها حيال محتوى وتفاصيل تلك المواريث ومن ثم كيفية استثمارها لصالح الجميع.
المعوّق الثاني ويمكن اختصاره بحالة (انتكاس معطيات الحاضر): وهو ما يتمثل باستعصاء توافق الإرادات وتضارب التصورات حيال تشخيص العوامل الموضوعية والدوافع الذاتية المسؤولة عن ظواهر تراكم الأزمات وتفاقم الصراعات. إذ طالما كان لكل مكون من المكونات أو جماعة من الجماعات رأيٌ مختلفٌ وتصورٌ مغايرٌ إزاء دور ووظيفة تلك العوامل والدوافع، بحيث ان ما يعتقده هذا الجانب أو تلك الجهة دائما ما يكون متعارضًا ومتقاطعًا مع اعتقاد بقية الشركاء في الوطن والنظراء في المسؤولية.
الأمر يتعذر معه الوصول إلى اتفاق – ولو بالحد الأدنى - إلى رأي موحد أو تصور مشترك يفضي لتشخيص مصادر الأزمات والصدمات واكتشاف مكامن الحلول، وبالتالي استمرار حصاد الانتكاسات والانهيارات على الصعد كافة.
المعوّق الثالث (احتباس توقعات المستقبل) : وهو ما يتمثل بانسداد الآفاق الموجهة وانعدام الرؤى الواضحة، التي من شانها أن تكون مثابات/ دلالات للإرشاد الجماعات والمكونات المنطوية على (أناها) العصبوي، للخروج من أنفاق ماضيها المختلق والتخلص من شرانق تاريخها الملفق، والتي طالما كانت حائلا دون اهتدائها إلى السبل، التي يفترض أن تقود خطاها صوب استشراف، ليس فقط ما كانت تتوقعه من أحداث تاريخية وتترقبه من مآلات سياسية فحسب، وإنما تجنبها المزالق الاقتصادية والمتاهات الاجتماعية التي من المحتمل مواجهتها عند كل منعطف.
والحال، انه إذا كانت واحدة من تلك المعوقات كافية لإحداث ما يكفي من الإضرار في سيرورات البنى والأنساق والسياقات، مثلما في ديناميات العلاقات والتواضعات والسلوكيات.
فكيف ستكون النتيجة، إذن، حين يكون المجتمع عرضةً لتفاعل تداعيات وتأثيرات تلك المعوقات الثلاث مجتمعة في آن واحد، سوى تفكيك كيانه الاجتماعي وانهيار معماره القيمي واندثار مدماكه الحضاري!.