وارد بدر السالم
(1) دخل العالم في عصر الصورة منذ وقت طويل. ودخلت فلسطين في هذه الملحمة منذ مقتل الصبي “محمد الدرة- العام 2000”، عندما شاهد العالم كيفية مقتله الفجائعيَّة. فالصورة اختصرت الكلام، وتوسعت في الدلالة البصرية على مرأى العالم. أما الكلام فهو إنشاء عاطفي في معظمه. قد لا يتذكره أحد بعد سنوات. وقد يزوره مؤرخو الفشل في أي مكان. في حين تعيش الصورة كملفوظ بصري ذي دلالات، وكأيقونة فنية مهما كانت زاوية التقاطها.. لها مقدرة البقاء طويلا.
(2) مجتمعات ما بعد الحداثة توثقها الصور المرئية، الثابتة والمتحركة؛ في غالب الأحيان. فهذه تمتد مع الزمن، كونها لغة مترجمة لا تحتاج إلى وسائط.
مُتاحة بَصرياً وعقلياً. فإنسان ما بعد الحداثة، قُيض له أنه يعيش في حاضنة الصور، وهي تدخل البيوت والمقاهي والغرف والدوائر والمؤسسات. يراها الأصدقاء والأعداء. فتؤرشَف في الذاكرة الحيّة والميتة على حد سواء.
ومع الصورة الصامتة تنطق الأحداث في هذا العالم المُخزي، فتقول الكثير، وتعبر الزمن، وتفرز ملامحه السوداء والرمادية في الأحوال كلها. كونها وسيلة خطابيّة للضمير الإنساني تشير إلى واقعة أو مشهد فيلمي مختصر، لتحمل معها دلالاتها التاريخية والنفسية وأيقونتها، العفوية منها على وجه الخصوص.
ومن ثم هي كتاب مفتوح على كل مرجعياتها التاريخية والنفسية. وسنضمن في الصورة المباشرة أرخنة المشهد الحي، الناطق، الأصيل، المعرفي، فنكون أمام الحدث بمواجهة الأعزل الذي يواجه / تواجهه/ الحقيقة المريرة.
(3) يتطور مرأى الصورة إلى مشهد نفسي في اختلاط المشاعر البَصريّة، التي تقود إلى تحريك الضمير الإنساني لمشهديتها الحيّة التي تقول ما لا تقوله الكلمات في أحيان كثيرة. لكونها ذات مميزات اتصالية سريعة، عابرة للّغات، من دون الحاجة أن يكون المتلقي واعياً سياسياً، لكنه سيكون بعد الصورة، مدركاً لما آلت الأمور إليه من مأساة، ويُدرك حجم الجريمة بتمامها وكمالها، من دون الحاجة إلى تفصيلات كتابيّة كثيرة. فقد تكون هذه ذات مرجعيات وصفيّة لا أكثر من هذا.
(4) الصورة لا تخاطب العين حسب، فربما تكون العين محايدة؛ إنما تخاطب البصيرة، ومعها السمع والقلب والعقل والدماغ، في دخولها المباشر إلى أرض المعركة من أضيق وأوسع الأبواب. فتكوّن مشهديات متتالية ودلالات رمزية للواقعة التي لا تنفصل عن مرجعياتها التاريخيّة والروحيّة التي تحملها الصورة في تضاعيفها المعلنة. وأن ما لا نراه في الصورة (الفلسطينية الآن في غزة) هو الجزء الآخر الذي أسرعت الصواريخ إليه قبل أن تتنفس الكاميرا، وتفتح عينها على المشهد الذي يليه.
فقد يكون مصور آخر من هذا الكوكب المريض قد التقطها مصادفة، وبثّها في مكان آخر من العالم، لتكون الصورة موازية لما قبلها في الجريمة الصهيونية التي نعرفها.
وهذا يمكن أن نسميه (فضيحة الصورة) كإرهاب صنعه وأخرجه المحتل الإسرائيلي، ودوّنته كاميرات الصحفيين الذين يعيشون في روح الحدث وليس قلبه حسب.
لتكون الرؤية المباشرة لها أكثر وجعاً من الحدث ذاته، كونها تبقى قارّة في الزمن التعيس الذي تعيشه البشرية على أعتاب الحروب الكارثية.. فهل نسينا صورة محمد الدرة منذ عام 2000 حتى اليوم؟.
(5) غزة في ملحمتها الجارية اليوم، نقلتها إلينا الصورة التلفازية والفوتوغرافية. تتبخر الكتابة العاطفية، بل وتُنسى أيضاً، لنكون في العصر المصور. نرى ما لا نريد أن نراه، من تمادٍ عدواني طال الصغار والكبار من نساءٍ ورجال. وقصف صاروخي مرير لم يسلم منه الحجر والبشر والشجر، لمحو الأرض وتهجير سكانها في لعبة سياسية خطيرة، بدأت معالمها تتضح اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى.
فنكتشف أن الصهاينة ومعهم الغرب وبعض العرب، يعانون من أزمات كثيرة، ليس أولها ولا آخِرها، شعورهم بالدونية أمام المقاومة الفلسطينية، التي تواجه رابع جيش في العالم.
ومن ثم فإن نتنياهو ومَن معه من القيادات الأمريكية والغربية والعربية، الذين يعانون من أزمة وعي أخلاقي في القضية الفلسطينية، يصورون استعلاءهم العسكري، في إبادة بشرية كما نراها عينياً على شاشات الفضائيات العالمية. ونتحسسها بضمائرنا المستقلة في أدنى
حد.
(6) الصورة فضيحة: كل الأطفال القتلى كانوا ينظرون إلى السماء وإلينا وإلى المكان. كما لو أنهم في طقوس الموت يُشهدوننا على حجم الفاجعة، وحجم الفضيحة الصهيونية التي قتلتهم، في أبشع لحظات التماس بينهم وبين الحياة، في سحر الصورة وعجائبيتها الفريدة وهي تلتقط أنفاس الموت القريبة، وتحيلها إلى أرشيف فلسطيني كبير. وسيبدو، أو بدا، مشهد الموت المذعور في وجوه الأطفال، كأنّه مات قبل أن يلتقط أنفاسَ أطفال غزة، الموت يموت في وجوههم الغضة.. هكذا بالضبط.
(7) سنرى في محرقة مستشفى المعمداني الصور الأبشع للجريمة. الإرهاب في أعلى مستوياته الوحشيّة. فضيحة اللاإنسانية الصهيونية في تمامها التام، من دون تزويق للموت المجاني. فصور المستشفى المحترق، المفتت، المبعثر، يحكي الكثير من عذابات نكتبها ولا نتحسسها كثيراً، إلا بمقدار ما في الصورة من أهوال حربيّة كارثيّة، تفتح فينا جراحاً كثيرة، هي- بالضرورة- أقل من جراح أهل غزة، فنصف تلك الغارات العدوانية بأنها موت فلسطيني معلق في الفضاء، وأن الصورة الحيّة وُلدت من الذات الفلسطينية في حصارها المميت. فيُقتل المقدس أمامنا وينتهي في كل مكان من غزة.
(8) الصورة الفلسطينية الساردة للحدث، تخرج من ذاتيتها المفرطة، وتطوف في فضاء أوسع وأكثر انتشاراً، لتلامس كوامن الآخرين، عرباً ومناصرين وإنسانيين في الغرب والشرق، لتؤرخ المجزرة والمحرقة، وتفتح الأسئلة على مصائر البشر في فلسطين، أو أي مكان آخر على هذه الأرض المستباحة بالدماء.
(9) خطاب الصورة الفلسطينية فضيحة دموية.