ظهر السمكة والتجربة المفردة

ثقافة 2023/10/24
...

   باسم عبد الحميد حمودي

تجربة (ظهر السمكة) الروائية الغريبة خلال حرب الثماني سنوات المؤلمة لا يكتبها سوى شاعر مثل حميد قاسم. الغرائبية هنا لا في (تمنيات) التجربة بل في صياغتها الروائية, وتبدو العتبة الأولى وهي (الإهداء) مفتاحاً موارباً لما سيحدث من تفاصيل صادمة وجديدة ومغايرة لحركة السرد العراقي وربما في الأدب الإيراني المواجه لمحنة الثماني سنوات.
يقول الإهداء الذي وجهه الروائي:
(إلى أمهات ضحايا الحروب, الضحايا الذين وضعوا السلاح في أيديهم ولم يكونوا أعداء بعضهم البعض يوما ما)
وقد لعب الروائي بداية لعبة إيهام قصدية ليناور القارئ ويعطي لمفتتح الرواية صيغة أخرى أراد أن يقول فيها أنه أراد أن يكتب رواية عن العزلة الكونية خلال أزمة كورونا التي عزلت البشر, وأنه لا يعرف قواعد اللعبة الروائية، لكنه يجرب استناداً إلى أجواء ذكرى والده، الذي عرفه الجوار حكواتياً ممتازاً يستطيع صياغة البناء الروائي ليجذب السامع المتلقي, فهو راوٍ شعبي لا يجارى لكنه أميّ, يحمل من تجارب الحياة الكثير.
يستمر الروائي في الصفحات الأولى من عمله السردي المهم يتلاعب بالقارئ عبر حوار متصل مع صديق له يتهمه بعدم القدرة على القصّ.. مثل والده.
تأتي البداية الأساسية لعمله هذا عندما وقف الراوي العليم في بيت عمته صبرية في القطاع 42 من مدينة الثورة في تموز 1982 على جثمان ابن العمة الشهيد (علي)، الذي استشهد في معارك شرق البصرة.
كان المشهد الذي رسمه الروائي للشخصيات الثلاث، الذين شاركوا في الأداء ( الأم – الشهيد- الراوي) مرعباً شديد القسوة والـتأثير.
طلبت الأم من ابن أخيها أن يفتح اللفائف عن وجه ولدها ففعل مرتجفاً, أخرجت الأم ثديها الضامر وألقمته شفة
الشهيد..
كان الموقف شديد التأثير غريباً، دفع الراوي العليم أن يبدأ تجربة الكتابة الروائية الحقيقية عبر عتبة (دفاتر عتيقة).
كانت البداية في استعادة قراءة الدفتر القديم الذي أحتفظ به الراوي مدة ثلاثة وثلاثين عاما, وهو دفتر يوميات زميله وصديقه في الراقم 684 سليم غانم سلطان, في مذكراته عند (بشت ماهي) أو (ظهر السمكة) وهو المرتفع الذي كان يواجههم من جبل
سي سر.
استخرج الراوي – المؤلف الضمني- الدفتر القديم ليبدأ تدوين اليوميات التي أراد انتحالها لنفسه، لكنه ذكر مؤلفها الحقيقي وهو ينضدها وينسقها على آلة الحاسوب متخلصاً من النزاعات اليومية مع زوجته نتيجة بقائه في البيت خلال أزمة كورونا.
هنا يكون أمامنا ثلاثة مؤلفين هم:
1 - حميد قاسم
2 - الراوي العليم
3 - سليم غانم سلطان
وبذلك نحن أمام خلطة أسلوبية هي نتاج صناعة ثلاثة مؤلفين, هم حقيقة حميد قاسم وحده الذي انشطر منه المؤلفون الآخرون.
كان مسرح الأحداث الأساسية للرواية الراقم 684 الذي تبدأ فيه أحداث سرية الاستطلاع، التي وضعت هناك لترصد حركة القوات الأيرانية المواجهة عند الراقم 950 في جبل سي سر، الذي احتوى هذه المواجهة الدامية التي أستمرت ثماني سنوات في حرب مجنونة فقدنا فيها آلافاً مؤلفة من الشباب والشيوخ، وفقد الايرانيون مثلنا حتى حانت ساعة الوقوف الغريبة.
كانت السرية المتقدمة بقيادة الملازم الأول جلال شاكر ورأس العرفاء (مناع)، وهما اللذان يديران السرية وتفاصيل العمل اليومي الشاق فيها.
كان معظم الجنود في هذه السرية المواجهة لقوات الجيران القريبة, من المشكوك بولائهم المطلق للنظام السائد, وكانت شتيمة القائد الضرورة أمراً طبيعياً بينهم شرط عدم الإعلان المباشر عن الاسم.
كان ضابطهم أكثر سخطاً من سواه لكنه لا يفشي سره الدفين الذي يفصح عنه تلميحاً وهو يقف وسط الشق الطولي عند سفح الراقم المواجه للعدو، ليبدأ الشتم وحيداً بعد كل أمر إنذاري أو مصيبة ما أو قصف معاد، ويلحن شتيمته الغاضبة الموجهة إلى الهواء:
(اللعنة عليك وعلى شرفك.. لماذا جئت بنا إلى هنا, من أجل ماذا).
كان جلال (كأنه يتحدث عن شخص بعينه هو نفسه في كل مرة, شخص نعرفه،  وغالبا لا نبوح باسمه في الأيام الهادئة) كما يصفه الراوي ص19.
يقينا أن المقصود هو رأس النظام الحاكم الذي كان لا يجرؤ مخلوق على التعرض حتى لجندي حراسة... لكن التعرض لشتمه غير المعلن يتم دوماً وسط هذه السرية، التي يتبادل أفرادها النكات حتى على الأمين العام للحزب.. ميشيل عفلق ذاته.
كان أفراد السرية من مشارب شتى وانتماءات فكرية غير متشابهة بل وبعضها متضاداً.
شيوعيًّا وإسلاميًّا ووجوديًّا لا منتميّا.. وأي تفصيل فكري آخر.. كلهم يعيشون وسط أتون من الجمر والنار، ويتلقون ضربات الرواقم المعادية المقابلة وخصوصا الراقم 1050.
كان كاتب المذكرات (سليم غانم سلطان) يستذكر أيامه عند زوجته وولديه وأصدقائه، وشربه المنكر في حدائق الاتحاد مع رياض قاسم، وسامي محمد، وعادل وحميد وسلام من الشعراء الشبان.. لكنه كان يصرخ وحيداً ساعة القصف المقابل:
(هكذا تركونا وحيدين بين يدي نظام رجل مجنون قاس لا يعرف الرحمة, مهووس بالدم والخراب) ثم يصرخ:
-ما الذي جاء بي هاهنا؟
تبـدو ذروة العمــل الدرامي الغريــب الــذي قــدمــه حميد قاسم في منعطف تلك المــواجهـة الحية بين العدوين المتقابلين في جو من تغلب السلوك الإنساني الحر على دموية الشر.