كوريا الجنوبية بلا فضلات طعام

بانوراما 2023/10/24
...

 ماكس كيم
 ترجمة: بهاء سلمان


خلال مسيره في الطريق عبر حقل مليء بالعشب الكثيف، حيث تتشابك أنابيب زرقاء اللون باتجاه صوامع كونكريتية، أغلق "تشوي سونغ هو" أنفه أثناء حرارة تموز المشبّعة بالبخار، لتوقّعه شم رائحة مألوفة. يقع مركز نانجي مباشرة في الوسط مقابل طريق سريع يؤدي إلى خارج الحدود الغربية للعاصمة سيئول، حيث يتعامل هذا المركز الكبير لمعالجة المياه الثقيلة بشكلٍ رئيس مع الفضلات البشرية الناتجة من دورات المياه المنتشرة وسط المدينة؛ لكن الرائحة المنبعثة حاليا سببها الطعام التالف والمتحلل وسط النفايات. وتعد تلك الرائحة مصدرا للتوتر بين المركز والساكنين القريبين منه، الذين لطالما قدموا شكاوى لدرجة جعلت مدير المنشأة يتخلى عن إدراج رقم هاتفه الشخصي ضمن بطاقة العمل الشخصية له.
يشعر تشوي بالتعاطف مع هذه الأمور المقلقة، في حين أن متابعة وتقديم مثل هذه الشكاوى هو جزء من وظيفته، فضلا عن متابعة مسار المياه الآسنة ومعالجة حالات توقفها أحيانا. ويعد دور معمل المعالجة والتدوير محطة أساسية غاية في الأهمية في التخلص من النفايات، خاصة في مدينة يسكنها نحو عشرة ملايين فرد، ويتخلف عنها سكانها نحو طنين ونصف الطن من نفايات الطعام الفائض عن الحاجة.
لقد حظرت كوريا الجنوبية طرح النفايات الغذائية على الأرض في العام 2005، وتبعه أمر آخر بالحفاظ على مياه المحيط في العام 2013 وذلك من خلال حظر رمي السوائل كمنتوج ثانوي، والمعروفة بالمواد المرتشحة، ومنذ بداية هذه الخطوات، نفّذت البلاد برنامجا شاملا للتسميد يعمل على إعادة تدوير جميع أنواع المواد الغذائية التي يتم التخلّص منها تقريبا وتحويلها إلى أسمدة، أو طعام للحيوانات، أو كما هو الحال مع مركز معالجة نانجي للمياه الثقيلة، يصبحا نوعا من الوقود يسمى "الغاز الحيوي".
وتعمل سيارات النظافة هناك وفق توقيتات خاصة لرفع دلو الأسمدة المجانية بإشراف فرق متخصصة، ودور تنظيم التوقيتات يأتي لكي لا يتداخل دور حاويات فضلات الطعام مع غيرها من محتويات القمامة، وهو نظام مفروض للنظافة منذ سنوات ويشابه قانون فرز مكونات النفايات في كاليفورنيا. ففي كل يوم، تتم معالجة كميات تقدر بنحو 130 طنًا داخل المعمل من بالاعتماد على المواد القادمة من شركات تجميع الفضلات ضمن المناطق المحيطة بالمعمل. ويجري ضخ السوائل إلى خزانات كونكريتية، تتعرض المواد فيها خلال فترة تتراوح ما بين 15 وثلاثين يوما، إلى التفتت بواسطة كائنات حيّة دقيقة في عملية يطلق عليها "الهضم اللاهوائي". أما الغاز الحيوي الذي تفرزه هذه العملية، فيجري حصره وبيعه إلى منشأة محلية، تعمل على توظيفه لتدفئة منازل المنطقة. "الأمر يشابه تماما وظيفة جهاز الهضم لدى البشر،" بحسب توضيح تشوي، الذي كان يتحدث واضعا يديه على معدته، ويضيف: "نعمل على ابقاء الحاويات بدرجة حرارة تبلغ 36 أو 37 مئوية، مشابهة لدرجة حرارة جسم الانسان."

عملية متكاملة
ما تخلفه المطابخ من بقايا الطعام؛ والتي ينتهي بها المطاف في مركز معالجة نانجي للمياه الثقيلة، تبدأ من كيس أصفر شفاف، قامت السلطات البلدية بتوزيعه بين المنازل، حيث تطلب من سكان المنازل استخدامه لرمي طعامهم غير المستهلك منذ سنة 2013. ومن خلال شراء هذه الأكياس التي يصل سعرها لنحو سبعين سنتا للتر الواحد وتباع في أي متجر أو محل للبقالة، يدفع السكان ضريبة للطعام الذي يتخلّصون منه. ويتم تجميع الواردات عن بيع هذه الأكياس كل بحسب منطقته، وتستخدم لتغطية نفقات نقل ومعالجة فضلات الطعام.
"في سيئول بشكل عام، تتكفّل رسوم الأكياس بنحو أربعين بالمئة من الكلفة الكلية للمعالجة، والتي تكلّف المدينة 153 مليون دولار سنويا تقريبا،" كما يقول "جانغ جياي"، رئيس فريق إدارة معالجة فضلات الطعام التابع للبلدية. ويعد الأمر المعتاد بمثابة طبيعة ثانوية لجميع من يسكن العاصمة: ضغط أية مواد رطبة ووضع الكيس بأكمله داخل سلة مهملات خضراء اللون الموجودة عند الرصيف بعد مغرب الشمس. وفي بعض مجمّعات الشقق، بمقدور السكان وضع أكياسهم جانبا، ووضع فضلات طعامهم داخل سلات فضلات الكترونية، التي تعمل بشكل تلقائي على حساب وزن مساهماتهم واستيفاء الأجور طبقا لذلك.
تشجّع هذه الوسائل الناس على جديّة التعامل مع الفضلات التي يخلّفونها. يقول جانغ: "سيكون الواحد منا قادرا على إدراك كمية ما يرمي تماما. هذا الحال يجعل الناس يشعرون بالراحة." وتقع على أصحاب الأملاك مسؤولية تزويد المستاجرين بسِلال خضراء اللون لتنفيذ قانون كاليفورنيا للتسميد. بعد ذلك، وفي محطات المعالجة المنتشرة حول المدينة، سيتم انتزاع الأكياس وإزالة أية أشياء غريبة من الخليط؛ وسيجري ضغط المحتويات الباقية، وتجفيفها ومعالجتها لتصبح سمادا أو طعاما للحيوانات، بينما ترسل المواد السائلة إلى معامل معالجة المياه، مثل نانجي.

الوصول إلى الهدف
ووفقا لهذه الطريقة، يجري حاليا عملية إعادة تدوير لفضلات الطعام في كوريا الجنوبية بنسبة تكاد تصل إلى مئة بالمئة، لتشكل قفزة بارزة من مجرّد أقل من ثلاثة بالمئة في العام 1996. وعملت هذه الفعالية لنظام كوريا الجنوبية على جعله يمثل بحثا لحالة نموذجية بالنسبة للمسؤولين الحكوميين في دول أخرى، حيث زار العديد منهم نظرائهم في سيئول طلبا للمشورة والنصيحة.
خلال العام الماضي، عقد فريق جانغ جلسة تشاورية عبر دائرة تلفزيونية مغلقة مع مسؤولين كبار من طوكيو. إذ إن الطريقة التي يتم فيها التعامل مع النفايات في اليابان مختلفة جدا، فيجري رمي الطعام مع الفضلات العامة ومن ثم يتم حرقها، بيد أن الحكومة اليابانية تعمل على اكتشاف امكانية وجود بدائل من خلال إعادة التدوير. يقول جانغ: "إنّهم مهتمون جدا بكيفية فصل الطعام عن مجمل الفضلات، وهم يريدون حقا معرفة إن كان الناس واقعا لديهم الاستعداد للمضي بأمر من هذا القبيل."
أما في كوريا الجنوبية، فقد بدأت العملية، قبل نهاية تسعينيات القرن الماضي، بفرز الطعام عن الفضلات العامة، وهو ما يمثل حجر الأساس لأي نظام إعادة تدوير قبل الانتقال إلى مراحل أخرى. وكانت فترة مكثّفة من التمدّن أدت إلى اكتظاظ بأعداد السكان في العاصمة، في الوقت نفسه الذي أدى فيه ارتفاع مستويات المعيشة إلى ظهور أنواع من الفضلات لم تكن منظورة خلال الأزمنة السابقة التي كانت أكثر ضغطا للنفقات. وفرضت المناطق السكنية ضغطا قويا مستمرا على مكبات النفايات الضخمة، التي بلغت حدودها النهائية، الأمر الذي أدى إلى استياء عام من الروائح والآفات.

قوانين صارمة
وبحسب جانغ، أعطت هذه المواجهات الحسية المباشرة شحنة سياسية متفجرة داخل البلاد خاصة عند مناقشة العواقب البغيضة لفضلات الطعام في عموم العاصمة سيئول. وهذا الحال مهد الطريق لفرض حظر على عمل مكبات نفايات الطعام في العام 2005، لكن الأمر الأكثر أهمية تمثل في إعداد الناس لقبول الإزعاج المضاف لجعلهم يطرحون فضلات طعامهم بشكل منفصل.
ومع ذلك، فقد اتبعت السلطات البلدية خلال السنوات القليلة الأولى منحنيا تعليميا. "كان هناك الكثير من المحاولة والخطأ، والكثير من التجريب،" كما تقول "كيم ميهوا"، رئيس "مجلس شبكة حركة كوريا بلا نفايات"، وهو ائتلاف وطني يتألّف من 180 مجموعة بيئية تتعاون مع الحكومة لبرامج إعادة التدوير: "يمكنني القول بأنه منذ العام 2013، أو نحو ذلك، بدأ المشروع يؤتي ثماره بتحقيق نجاح واضح".
وتمثلت إحدى أوائل المشكلات في الأشخاص الذي يوصفون بأنهم منتهكو القواعد، فمع عدم اعتياد هؤلاء على فرز وتجميع فضلات الطعام خارج المنازل، والتي تؤدي التخزين غير المتّقن فيها إلى مشكلة روائح نتنة، لجأ الكثيرون إلى إلقاء فضلات طعامهم خلسة في سلات المهملات العامة. وعرضت السلطات الحكومية مكافآت لمن يدل على المسيئين، والذين بالمقابل ستفرض عليهم غرامات مالية.
تقول كيم: "في محطات المترو آنذاك، كنا نرى علامات تبلّغ الناس بعدم رمي فضلات طعامهم هناك. كانت تلك من الأمور المألوفة، وهو رمي بقايا الطعام في الحمامات أثناء ذهابهم إلى العمل". لكن الاجراءات التأديبية لها حدودها، وكانت الجهود التي بذلتها مجموعة كيم بنشاطها الهائل هي التي ساعدت على وضع الأمور في نصابها؛ فعبر البلاد، قامت المنظمات المحلية بحملات توعية في الأحياء السكنية وأقنعت الناس بالمساهمة الفاعلة. "عملنا على اقامة ندوات عامة أو الذهاب والخوض في أكياس القمامة مع السكان كي نشرح لهم لماذا خلط الفضلات يمثل مشكلة؛ وحققنا أكثر من ألف ندوة توعية من هذا القبيل كل عام،" تقول كيم.

خلاصة التجارب
وكان لبرنامج اعادة التدوير حصة عادلة من العثرات بسبب الاستعجال، فالطريقة الحالية لمعالجة فضلات الطعام وتحويلها إلى سماد وطعام حيوانات وغاز حيوي أتت عقب تجارب عدة فاشلة، مثل إطعام فضلات الطعام السليمة إلى طيور البط، أو وضعها كسماد لصالح مزارع ضخمة لديدان الأرض، ولم تفلح هذه الطرق بمعالجة الفضلات بنسب ملائمة.
أما اليوم، وبسبب المخاوف بشكل رئيس من أمراض مثل حمى الخنازير الافريقية، يسير طعام الحيوانات خارج القائمة. ووفقا لقانون وطني جديد يهدف إلى تقليص استخدام مصادر الوقود الكثيفة االكاربون، كما سينبغي على سيئول توسيع انتاجها من الغاز الحيوي، والذي يمثل حاليا سبعة بالمئة فقط من الناتج الاجمالي لاعادة تدوير فضلات طعامها، ليصل إلى خمسين بالمئة بحلول سنة 2026. ولأجل تحقيق هذا الهدف، يجري تطوير منشأة انتاج جديدة للغاز الحيوي في نانجي.
وعلى الرغم من إدراكها للاهتمام العالمي بقصة نجاح كوريا الجنوبية، فإن كيم غير متيقنة من ماهية الدروس التي من الممكن تطبيقها وجعلها النموذج الناجح في البلاد، إذا كانت هناك أية منها؛ فبرنامج إعادة التدوير الأفضل هو ذلك البرنامج الذي يتلاءم مع الظروف الفريدة من نوعها للبلد موضع البحث، وتكمن المعضلة الأساسية الأكبر في إقناع شعب بأكمله أن يقوم بشكل طوعي بفرز فضلات طعامه، وهو أمر بعيد تماما عن العلم الدقيق.
تقول كيم مختتمة: "أعتقد أن ما يثبته النموذج الكوري الجنوبي هو امكانية تحقيق الإنجاز، إذا ما تم وضع الزمن والجهود ضمن سياق التثقيف والتوعية. لم يصبح أبناء كوريا الجنوبية فجأة ينجزون ما مطلوب منهم وفقا للضمير بين ليلة وضحاها، بيد إن العقول يمكن أن تتغيّر بمرور الوقت".
صحيفة لوس انجليس تايمز الاميركية