شالانوف لا يكنّ الحقد في {القادم من الجحيم}
رنا صباح خليل
في هذا الكتاب يطرح الكاتب الروسي (فارلام شالاموف) نصوصاً قصصيّة عديدة وهي من الأدب المحظور قدمها وكتب نبذة عن مؤلفها ومجموعته القصصيّة بعد أن قام بالترجمة للنصوص القصصيّة فيها الدكتور منذر بدر حلوم لينشر الكتاب عن دار الحصاد في طبعته الأولى عام 2001 وهي نصوص رسم فيها كاتبها صورة مرعبة للمعسكرات الستالينية التي ذهب ضحيتها مئات الآلاف من الناس، قصها شالاموف بعد أن عاشها بأدق تفاصيلها وبعد أن تمَّ إيقافه بسبب توزيعه لـ «وصية لينين» التي يعبر فيها قائد الثورة البلشفية عن خشيته من أن يهيمن ستالين على الحزب ويخضع أجهزته لسلطته. وبعد ان أمضى عامين في السجن.
أوقف من جديد بتهمة التعاطف مع تروتسكي زعيم ستالين ليقضي خمسة أعوام في «معسكر كوليما» في سيبيريا حيث كان هناك عشرات الآلاف من المساجين الجائعين الذين يقضون طول النهار في العمل في درجات حرارة تبلغ أحيانا 40 درجة تحت الصفر.
وما إن انتهت الخمسة أعوام، حتى حكم على شالاموف من جديد بعشر سنوات سجنا بتهمة القيام بالدعاية ضد الاتحاد السوفياتي، وقد وثق تلك السنوات عبر وقائع وقصص وأسماء وحكايات جرت على النحو الذي وردت فيه من دون أي مبالغةٍ أو حرص على التشويق أو الإثارة، وهو في شك دائم من كونه استطاع فعلًا أن ينقل ذلك الهول الرهيب، وتلك المآسي المستمرّة التي حفلت بها حكايات كوليما «السجن الذي يروي عنه شالاموف وقائع وأحداثا عاشها في المعسكر، ويصور فيها العلاقات بين المساجين، والأعمال الشاقة التي يقومون بها يوميّا، والأمراض التي تحصد البعض منهم، والبرد الذي يقتل، والجوع الذي يحوّل الأجساد إلى هياكل
عظميّة.
تراجيديّة أدب السجون تحت مطرقة الكلاسيكية
عندما قرأت النصوص السرديّة لهذا الكتاب تراءت لي صور تأملت فيها الأدب العربي، الروائي منه خاصة، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، إذ يمكن أن نلاحظه لا يغادر أدب سجون بشكل أو بآخر.
ويعود ذلك إلى ارتباط هذا الأدب ارتباطا وثيقا وصلبا بالأنظمة القمعية التي يتبارى فيها العذاب واليأس والحزن والدمار النفسي والجسدي بعد أن صار ملازما للمجتمعات العربيّة إلى درجة يبدو معها العالم لا يمكن له أن يسكت أزاء ذلك الطغيان المجنون، ولكننا لم نلاحظ ما يمنح تلك الكتابات عمقها الوجداني الدال والمعبر عن أحوالنا كما هي عارية في مهب الانتهاك الأدبي لمثل تلك الموضوعات الخاصة بأدب السجون، ويبدو لي ما جاءنا من نصوص بهذا الصدد تكرر نفسها واساليبها لأنها لا يمكن لها أن تحيد عن التجربة الشخصية أي الذاتية، وإن تطرقت هنا وهناك لوصف واقع مخالف لمقومات الشخصية، فقد اتسمت بالتقريرية والأسلوب المباشر وهي مشروطة أيضا بتاريخيتها وأصبحنا أزاءها محكومين بقراءة سيّر ذاتية فجة عن اساليب التعذيب والوشاية والمحسوبية والمصلحة الشخصية، وغالبا ما يقدمها اصحابها الذين ينتمون إلى جميع الأطياف السياسية يمينا ويسارا ووسطا، وتتباين مستويات نشاطهم في مناهضة السلطة الحاكمة من الانتماء إلى أحزاب معارِضة مرورا بمشاركتهم في مظاهرات واحتجاجات ووصولاً إلى استخدام العنف في بعض الأحيان ضد شخصية متجبرة أو ظالمة، ويمكننا أن نقسم أدب السجون على مستوى الأدبيات العربيّة إلى نوعين، الأول يغلب عليه الهم السياسي وينشغل في مهمة التحصيل المباشر والانفعالي لأكبر قدر من الإدانة للنظام الذي يرعى جريمة السجون ويغذيها بالمجرمين ومعظم ما كتب في هذا الباب نشره كاتبه، بعد أن أصبح بمأمن من قبضة النظام، والثاني يحكمه الهم الإنساني بشكل أكبر وينشغل في رصد المحنة وآثارها على البشر بعد تجرع طعم الهزيمة ومحاولة الكشف عن الطابع العنفي المتوحّش الذي كان يمارس داخل هذه المعتقلات والسجون، وغالبا ما يميل النوع الأول إلى المبالغات والتركيز على ما يحرض القارئ ويستفز تعاطفه، فيما لا يعبأ النوع الثاني سوى بالإجابة عن أسئلة أولية مثل، ما حجم الرهبة التي اصابت السجين بعد خوض التجربة؟، وكيف يتأقلم الإنسان مع اساليب حرمانه من حاجاته البايولوجية؟، هل يمكن للإنسان أن يمازج ما بين الجوع الخوف في احساس واحد؟، ما انعكاس شروط الحياة الجديدة القاسية على تكوينه النفسي والعقلي؟، ما هو موقفه من العالم الخارجي المتدفق في احداثه واحتداماته؟، كيف له أن يتجرع آلام فقداناته ويتمكن من مجابهة ذكرياته وحنينه؟.
في حين أننا عندما نقرأ قصص شالاموف نجده يأخذنا عنوة لتحرير الفكر من قيود الاذعان للعبوديّة وهو يناقش حوار دوستويفسكي عن العمل وتفوقه في الاشغال الشاقة عن العطالة، مستثمرا جملة الهواء النقي مثلا في احدى قصصه ليدحض ويناقض ما جاء به دوستويفسكي حين يصف الجو العام للعمل عندما يعمل السجين لمدة ستة عشر ساعة كاملة من دون توقف وهو يتحمل الجوع والبرد الشديد وانتهاك الكرامة حتى يستباح الهواء النقي ويتحول إلى هواء سام ومميت، وبذلك لم نجده يناقش قضايا خاصة وانما أخذنا لمناطق غير متوقعة ضمن أفق القراءة من خلال وصفه لأثر قلة النوم وكيف أن السجين اصبح ينام وهو واقف أو وهو يمشي بعد أن انهكت القوى بسبب قلة النوم اكثر من قلة الأكل، ذلك أن شالاموف يشخص انتهاك الكرامة التي تُداس والذكريات التي تصبح كابوساً، والحرية التي إن مهدت لفكر سليم فهي تؤسس لطرق سليمة للوصول الى الموت المحتوم بعد أن يصبح الموت أملا لا يمكن لسجين أن يحيى من دونه، وغير ذلك من الفلسفات التي تقام عليها نصوص شالاموف وهي تتطرق بعفوية سردية إلى أخيل وهيكتور ابطال حرب طروادة الموصوفة بإلياذة هوميروس، ونصوص تجوب في بلاغة الوعظ عند تولستوي وتخبرنا عن حروب هيروشيما وتتحدث عن الشاعر غافريل ديميانوفيتش ديرجافين، وعن عالم الأحياء الألماني أوغوست ويسمان الذي طرح فرضية حمل الصبغيات للصفات الوراثيّة وتوريثها من دون أن يثبت ذلك تجريبياً، وقص علينا نصوصاً عن الامبراطور الروماني كاليغولا والد الامبراطور غاي، المعروف في التاريخ كرمز للقسوة والوحشية بعد أن قام بِكَي الناس بالحديد الحامي، وألقى بهم الى الوحوش الضارية الجائعة في الأقفاص وهم أحياء، وأرغم الآباء على حضور طقوس إعدام اطفالهم وزوجاتهم.
أعدم ضحاياه ببطء. كان يأمر بالضرب بقسوة حتى يشعر المضروب بالموت، أن ما نقرأه في هذا الكتاب هو اشبه بملحمة فكرية تطرح وتناقش وتحلل وتصف وتحاجج وتكشف ولا اثر للفردانية والذاتية بمعزل عن الهم الجمعي فيها، خاصة فيما جاء به بناؤها الحكائي الذي تحكمه الانشطاريّة من جهة لغرض الالمام بغزارة المعرفة، والوقوف عند مسألة التعذيب الجسدي كبؤرة سرديّة تتفرّع عنها باقي العناصر السردية كالوصف الدقيق لفضاء السجن والزنازين الانفرادية والحياة اليومية للمعتقلين الذين أغلبهم كان يعاني من مرض الاسقربوط والدازنتري، بعد أن استطاع شالاموف بمهارة أدبية فائقة أن يكتب عن تجربة الاعتقال وهو حريص على تحرير نصه من إكراهات جنس السيرة الذاتية، وأن يجعل من نصوصه قوالب أدبية يصير فيها الواقعي خياليا والخيال واقعيا والفرد جماعات، وفي الوقت نفسه هو لا ينسى أن يندد ويدين ويبكي ويضحك ويربط الفضاء الداخلي للسجن بالفضاء الخارجي والحاضر بالماضي (الطفولة، الصبا، الانخراط في العمل السياسي) فجاءت النصوص انشطاريا في بنيتها الحكائية وفي مشاعر أبطالها، كأن عنف التجربة ومشاهدها المرعبة لا تسعفها اللغة بل تزيدها إفصاحا قاسيا وعميقا وكأنه كان يرد على الألم بالألم وعلى البشاعة بفضحها، وعلى الضحالة البشرية بإدانتها، مع حفاظه الدائم على ابراز مواطن الجمال فشالاموف حرص كثيراً من خلال إشعال فانوس صغير في كل قصة أن يضيء لنا محطة مهمة من تاريخ استعباد الإنسان وقهره وهو يفعل ذلك لا لتأكيد تفوق العبودية العصرية على سابقاتها ولا لتبرير الواقع الراهن كحالة مستمرة في التاريخ البشري والاستسلام له، بل في محاولة لفهم طبيعة الشر من دون الوقوع في مطب الحقد «لا»، أنا لم أكن الحقد أبداً بعد خروجي من معسكر الاعتقال، فلا يجوز الغضب أن المطر يهطل والرعد يدوي لقد كان ذلك كله ظاهرة طبيعيّة (*) هذا ما قاله ليخاتشوف وهذا ما أراد قوله شالاموف في
قصصه.
(*) ينظر: الاكاديمي ديمتري ليخاتشوف (من لقاء أجراه معه أندريه تشيرنوف) على صفحات أنباء موسكو، العدد 39 (1013) أيلول، 1988 ص13.