جماليات بيكاسو الملتوية

ثقافة 2023/10/25
...

لوسي واليس

ترجمة: مي إسماعيل


ماذا يرى الناظر إلى لوحتين لبيكاسو؛ الأولى لامرأة جميلة والثانية لوحش مشوه ؟ كلا اللوحتين لامرأة تجلس على كرسي ذي مسندين، وتشبه الصورة الأولى صاحبتها بواقعية؛ حاملة مروحة يدوية وناظرة بتأمل وهي غارقة في أفكارها.. هادئة، ولكن يشوبها الحزن. في اللوحة الثانية تبدو ملامح المرأة وجسدها ملتويين، ويصعب تمييز أطرافها.. رأسها ملقى إلى الخلف ويكشف فمها عن أسنان حادة. وتقول عنها الناقدة الفنية “لويزا باك”: “تبدو كأنها نوع غريب من الطرائد”. بين اللوحتين تناقض حاد وتباين، لكنهما تصوران المرأة ذاتها؛ هي “أولغا خوخلوفا” زوجة بيكاسو الأولى؛ راقصة الباليه الأوكرانية في الباليه الروسي. 

ولكن بعد مرور 50 عاما على وفاته، هل من الممكن تعريف بيكاسو بالجميل أو بالوحش.. تماما كما كان يحاول أن يفعل في لوحات السيدة خوخلوفا؟ قال بيكاسو ذات يوم: “أنا أرسم اللوحات كما يكتب البعض سيرا ذاتية..”. 



نتاج البيئة الذكورية

ترى “باك” أن النساء في حياته كن محفزات لأعمال بيكاسو؛ لكنه خلال مسيرته الفنية.. “ترك أثراً من أشلاء النساء في أعقابه”.. وتمضي قائلة: “ترك بيكاسو أول حب كبير له؛ “فرناند أوليفييه” معدمة تقريبا، وفقدت زوجته أولغا اتزانها، وانتحرت عشيقته “ماري تيريز والتر” بعد وفاته”. توضح باك أن مواقف بيكاسو تجاه النساء كانت إشكالية؛ ولكن يجب النظر إليها أيضا من منظور تربيته: “نشأ بيكاسو في الأندلس أواخر القرن التاسع عشر، وترعرع في بيئة أبوية ذكورية. واعتاد التردد على البغايا عندما كان في أوائل مراهقته؛ وهو أمرٌ كان شائعا ومقبولا..”. التقى بيكاسو أولغا خوخلوفا عام 1917؛ حينما طُلِبَ منه إعداد تصاميم لفرقة الباليه الراديكالية آنذاك. كانت أولغا حينها في السادسة والعشرين، وبيكاسو يكبرها بعشر سنوات.. تزوجا عام 1918 وعاشا في باريس، ورزقا بولد عام 1921. أنهى بيكاسو لوحتها الأولى عام 1918؛ كما تقول “باك”: “تبدو اللوحة وكأنها لم تكتمل فعلا؛ فهناك ضربات الفرشاة في الخلفية، ويبدو وجه السيدة وكأنه قناع.. وهو أمر غامض تماما..”. ترى “باك” أن معرفة قصة خوخلوفا وخلفيتها الدرامية تسهم بتفسير العمل الذي يحتوي على الكثير من المشاعر المؤثرة: “تأثرت خوخلوفا بمصير أفراد عائلتها المقربين الذين كانوا في روسيا وقت الثورة، ولم تتمكن من الاتصال بهم”.. تتساءل الناقدة إن كان بيكاسو ينظر هنا إلى زوجته متعاطفا مع حزنها وهو يرسمها، أم لعله رسم اللوحة لإرضاء الزوجة وتكريمها؛ إذ كان لها ذوق تقليدي في الفن. 

إعادة الابتكار

كان بيكاسو قد نال شهرته قبل تلك اللوحة لكونه أحد مؤسسي التكعيبية؛ وهي أسلوب فني يبدو فيه موضوع اللوحة أو العمل الفني وكأنه شظايا هندسية. لكنه كان دائم القلق، راغبا في إعادة ابتكار عمله الفني (كما تقول باك)؛ وبتقديمه لوحة خوخلوفا ذات الأسلوب الأكثر واقعية عام 1918؛ كان من المحتمل أنه رسمها ليُثبت أنه لن يبقى محاصرا ضمن نمط فني واحد. لكن ذلك القلق الفني ظهر في علاقاته الشخصية أيضا.. وإذا مضينا بالزمن سريعا إلى عام 1929، نرى أن اللوحة الثانية لأولغا خوخلوفا كانت أكثر “عدائية”، كما يوضح “مايكل كاري” أمين غاليري “غاغوسيا” بنيويورك: “تتغير الطريقة التي يقدّم بها بيكاسو امرأة ما ((مع تغير علاقته بها))؛ ففي اللوحة الأولى تبدو أولغا الزوجة الجميلة، وعند نهاية علاقتهما أظهرها وكأنها شمطاء أو وحش؛ ويصعب هنا رؤية الحب في علاقتهما”. 

كان بيكاسو قد التقى عشيقته “ماري تيريز والتر” عام 1927، والعلاقة مع زوجته قد بدأت بالتفكك؛ وهو ما وصفته باك قائلة: “كان الأمر يحمل كل السمات المبتذلة لأزمة منتصف العمر. لقد تغير الزمن، ولكن حتى في ذلك الحين كانت هناك فجوة عمرية كبيرة”.. كانت والتر طالبة مدرسة عمرها سبعة عشر عاما، وكان بيكاسو يكبرها بنحو ثلاثين سنة. ترى باك أن لوحة خوخلوفا الثانية قد تكون تعبيرا عن معاناتها العاطفية بسبب انهيار العلاقة؛ وربما أيضا لشعور بيكاسو بالإحباط تجاهها، قائلة: “ لقد شوه بيكاسو جسدها؛ فسحبها ودفعها ووضع أطرافها في اتجاهات مختلفة. إنه غاضب من الأسلوب الذي تحبطه فيه بطريقة ما؛ حين ترفض مجرد الانسحاب بهدوء والتلاشي مع الغروب..”. في لوحة خوخلوفا عام 1918 الأكثر واقعية، كانت الألوان مكتومة نوعا ما؛ لكن اللون الأحمر للكرسي الذي تجلس عليه المرأة في الصورة الثانية يبدو أكثر عنفا وخطورة.. لون الدم واللحم، وفقا لباك: “لا تنسوا أن بيكاسو نشأ وهو يشاهد مصارعة الثيران؛ يشاهد الصراع. وبالنظر إلى المرآة أو النافذة الفارغة في خلفية الصورة، لا يمكن رؤية أي مخرج، وليس هناك منظور أو انعكاس”. ما لبث بيكاسو وخوخلوفا أن انفصلا عام 1935؛ عندما كانت والتر حاملا. لكن خوخلوفا رفضت منحه الطلاق، وبقيت متزوجة منه حتى وفاتها عام 1955. يعترف “برنارد رويز بيكاسو” (حفيد خوخلوفا وبيكاسو)؛ بمدى صعوبة أن ترى جدته خوخلوفا تأثير والتر في إبداع بيكاسو.

مراحل النساء واللوحات

بعد أن انتهت مرحلة “ماري تيريز والتر” من حياته؛ مضى بيكاسو لإقامة علاقات (ورسم لوحات) مع عشيقاته الأخريات؛ وكانت منهن- “دورا مار” و”فرانسواز جيلوت”، وزوجته الثانية “جاكلين روك” التي انتحرت بعد وفاته. تقول “باك” إنه حينما توفي بيكاسو عام 1973 كان يحظى باحترام كبير باعتباره “نجما”، وعند نهاية حياته كان قد أصبح ماهرا في التلاعب بصورته وجعل نفسه أسطوريا.. وأصبحت صور بيكاسو وهو يرتدي “تي شيرت” مخططا بالأبيض والأسود، موجها نظرة قوية ثاقبة، أمرا مرادفا  لعلامته التجارية.. تقول “ديانا ويدمير بيكاسو” (حفيدة والتر وبيكاسو): “بيكاسو رجلٌ مليء بالتناقضات؛ إذ يمكنه أن يكون رقيقا، ويمكنه أن يكون قاسيا..”. تؤكد “ألكسندرا شوارتز” (الكاتبة في مجلة نيويوركر) أنه يمكن رؤية قسوة بيكاسو في تعامله أثناء علاقته مع حبه الأول “فرناند أوليفييه”؛ إذ كانت له تقلبات مزاجية قوية؛ قائلة: “كان رائعا في الحب؛ ولكنه لا يكون كذلك عندما ينزعج أو يغضب”. أراد بيكاسو السيطرة على حضور أوليفييه حتى عندما لا يكون هو موجودا؛ لذا كان يغلق باب شقتهما من الخارج ويتركها حبيسة الاستوديو. تقول الطبيبة النفسية “فيليبا بيري”: “ليس هذا بالأمر المقبول إطلاقا بمعايير اليوم؛ لكن النساء كنَّ يُعاملن كالممتلكات حينها. أراد بيكاسو السيطرة على عالمه والأشخاص الذين يعيشون فيه، كما يمكننا السيطرة على اللون في لوحة الرسم”. تؤكد الناقدة لويزا باك أنه لا يمكن التغاضي عن سلوكيات بيكاسو تلك؛ لكنها تمضي قائلة: “برغم كل تعقيداته وإشكالياته وجوانبه غير المستساغة؛ يبقى نتاجه فنا عظيما؛ ولعل جزءًا من أسباب كونه فنا عظيما أنه يحمل داخله كل تلك المشاكل والتناقضات.. لا أعتقد بأن بالإمكان إلغاء بيكاسو..”. 

وإذ تبقى لوحتا خوخلوفا مفتوحتين للعديد من التفسيرات؛ فإن الفنان أيضا شخصٌ معقد للغاية.. وكما تقول “بالوما بيكاسو” ابنته من فرانسواز جيلوت عن والدها: “لا يمكن أن نقول عنه إنه كان وحشاً أو كان عبقريا... إنه مجرد رجل”. 

 بي بي البريطانية