العيش في سعادة المجهول

ثقافة 2023/10/25
...

محمد جبير



هل يمكن لمنتج السرد أن يعيش سعادة المجهول؟ وما هذا المجهول؟ وكيف يتجسّد أمامه واقعًا مادّيا محسوسًا؟ وهل المجهول هو متخيّل سردي ذاتي لا يلتقي مع المتحقّق الواقعي؟ منتج النصّ السردي يبقى إنسانًا حالمًا، وأنا هنا أتحدّث عن المنتج المبدع/ الفنّان الذي ينحت مفردات نصِّه نحتًا جماليًا، لا ذلك الراصف لمفرداته كأنّها أحجار ميتة لا روح فيها، هذا المنتج تراه دائمًا محلِّقًا في فضاءات واقعه، ولا يرى منه إلّا ما يراه من جمال وإشراقة أمل لمستقبل يضيء له القابل من الأيّام، ويشعره بالاطمئنان، الذي هو أهمّ منزلة من منازل الإبداع التي تبعده عن حالات الندم على ما فات.

تلك أحلامه، ووسط هذه الأحلام يعيش سعاداته اليومية الصغيرة في إشراقة مفردة، أو رشفة شاي في لحظة نشوة أو تأمّل، قد يرى في مخياله سعادته أو تعاسته مثلما قيل قديمًا لكلّ شيخ طريقته، لذلك تتلوّن الرؤى، وتختلف تشكّلات الواقع وطرق فهمه وعرضه، وإدارة أحداثه، حيث لا توجد وصفة سحرية متكاملة لخلطة سردية، وإنّما هناك عدّة خلطات سحرية لحياكة وحكاية هذا الواقع الذي يراه ولا نراه، على الرغم من أنّنا نعيشه ونتعامل ونفكّر فيه كلّ يوم.

لن يرضى منتج النصّ أن يعيش واقعه كما يعيشه المتلقّي، إنّه يتمرّد على هذا الواقع العام، لينتج واقعًا خاصًّا يرى فيه جدوى نور حياتنا، كاشفًا عتمة تلك البؤر، مزيحًا غبار الزمن عن الحقائق المهملة، تلك هي خرائط وطرق يرسمها قبل أن يشرع في سفر الكتابة ، تلتبس وتشتبك أثناء فعل الكتابة، لأنّها لا تنسجم أحيانًا مع المشروع السردي للنصّ، وتبحث عن واقعها المتخيّل في الخلق الإبداعي، وهنا يمسي المشروع الفردي الذي يفكّر فيه منتج النصّ، ويوزّع أدواره على مخلوقاته التي تروي ما يحدث مشروعًا جماليًا جماعيًا يتجاوز الفردية الذاتية إلى فرادة إبداعية.

يعيش سعادته مع المجهول من أجل تحقيق تجاوزه، تجاوزه لذاته ومنجزه، مؤكِّدًا على خلق واقعه الخاصّ على الواقع المعيش، ليكون متخيّله الواقعي هو الواقع الحقيقي الذي يفترض أن يعيشه الكائن الباحث عن الجمال، فهذا الكائن الشفّاف الرقيق لا يمكن له العيش في الأماكن المظلمة والعنف، والتي يسودها القبح بوصفه حقيقة لا بدّ أن يتعايش معه، إنّها الكائن الذي يفرش أجنحته الغضّة بين الورقة والقلم، ويطير في سماوات أوطان المغالطات، ليرسم قوس قزح أحلامه التي ينبغي أن تعاش، لا يمكن أن يكون هذا الكائن في يوم من الأيام كائنًا مهادنًا للظلم والطغيان والاستعباد والوحشية، وإنّما رفضًا وبشدّة، على الرغم من هدوئه الخارجي، وحتى برودة ردود أفعاله الخارجية، لكن داخله يغلي مثل مرجل ساخن لإنتاج الجمال من وسط ذلك القبح.


هواء نقي في رئة سليمة

منتج النصّ المبدع والحقيقي، يمتلك رئة سليمة، لا تقبل إلّا الهواء النقي، أمّا الهواء الفاسد فإنّه مطرود من هذه  البيئات النقية، لذلك يكون هذا المنتج للسرد كالباحث والمفكّر، يرى ويسمع ويعالج إشكالات ما يراه، ويضع سؤاله الروائي في صداره عمله، ذلك السؤال الذي هو مركز وبؤرة ومحور العمل الإبداعي، وهو الذي يؤدّي إلى خطابه الجمالي الذي يريد أن يرسله للمتلقّي، وهنا تكون العلاقة بين المنتج والمتلقّي علاقة تكامل وتواصل وتشارك، لا علاقة نفور وقطيعة، حيث تتكامل العلاقة بينهما، وذلك بكميات الشحن المحسوبة المقادير في التشويق والمتعة والبناء الفنّي والرؤية الجمالية والإضافات المكتشفة التي يضخّها المنتج للمتلقّي، فالنصّ السردي في تكامله هو نصّ حياة جديدة، لا تجسيد صوري انعكاسي يبعث الملل لدى المتلقّي الذي لا يحبّ أن يرى تكرار سردياته البصرية للواقع في سرديات كتابية لا تغني ولا تسمن.

هذا المنتج، عاقل في جنونه أثناء لحظة الفعل الإبداعي، ومجنون في عقله أثناء رصده لتحوّلات ما يراه في المرئي اليومي، إذ إنّ كلّ مرئياته الصورية هي خزين ذاتي للمشروع الكتابي، بينما يفشل منتجو النصوص في الجانب الآخر ممّن لا يمتلكون التجربة والخبرة الحياتية في إنتاج النصّ الطموح، وإنما يبقى في حدود اجترار الثرثرة السردية التي تسود وتهيمن على النصّ، وتملأ فراغاته بثرثرة خارج المتون السردية، إذ إنّ أقصى ما تراه من خزين صوري في ذاكرة ذلك المنتج إنّما هي اجترار لصور مستلّة من تجارب آخرين وثّقوها في نصوص عاشوا تفاصيلها وتفاعلوا معها، لذلك نرى تلك الصور في تلك الأعمال حيّة وفاعلة، بينما نراها في النصوص المستعارة هجينة ولا تنتمي إلى روح وواقع منتج النصّ، لذلك تولد هذه النصوص وهي تحمل في داخلها سرّ موتها، وهو ما نلمسه في الكثير من الأعمال التي صارت تُسوّغ على أنّها تناصّات مع تلك الإعمال الإبداعية الكبرى، ولا يعترفون بأنّها تلاصّات في حقيقة الأمر، إنّ إدراك الحقيقة، وتجاوز الأخطاء والعثرات، هو الطريق السليم تجاه الإبداع، لكن الكثير منتجي السرد لا يعون، أو لا يريدون أن يعوا تلك الحقائق، لذلك فإنّهم يصرّون على تكرار أخطائهم من عمل إلى آخر.