في العودة إلى المثقف الثوريّ

ثقافة 2023/10/26
...

  طالب عبد العزيز

 تمكنت العولمة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وضعف دور الأحزاب الشيوعيَّة في العالم من إقصاء جملة (المثقف الثوري)، التي شاع تداولها في الأدبيات بعد الحرب العالمية الثانية، من أدبيات النقد، ولم تعد فاعلة حتى في نفوس الكثير ممن ارتبطوا باليسار، ولم تعد تذكر إلا في بعض دوائر النقد العربي الضيقة، أو على ألسن ممن تبقى من النقاد والمفكرين الستينيين في أقل تقدير. ترى هل يعني أن منظومة القيم الأخلاقية اليومية للمثقف تفككت بتراجع علم التاريخ، وتداعي الماركسية اللينينية؟ وهل انتفت الحاجة للثورة، ودوْر المثقف الثوري في الثقافة والحياة بعامة؟ كان مهدي عامل يقول: «أمجّد عينيك.. أغني للبحر.. هل للبحر نقاوة عينيك؟ أمجّد عينيك.. أغنّي للبحر.. هل للأرض ضرورة عينيك؟».
ويكتب البرتو منغويل: «قبل أنْ يتحول ارنستو تشي جيفارا إلى ثائر كبير كان شعوره العميق بالخزي حيال الظلم قد تجلّى بقصائد رديئة، قصائد تلفها أصداء طنطنة القرن التاسع عشر». وحين وجدَ أنَّ القصائد لا تفي بالفعل، وأنها قاصرة عن تحقيق ذاته كثائر حمل بندقيته، وفعل بها ما لا يمكن أنْ تفعله القصائد تلك. هل نكتب مادة تعبوية نقحم قضية غزة فيها مثلاً؟  لكنَّ التاريخ الانساني لا يتجزأ، والثورة مفهوم نبيل، والمثقف الثوري ضرورة تاريخية، والحقيقة المطلقة تقول بأنَّ القلم العربيَّ وحده قاصرعن التصدي لآلة البطش الصهيوني- الأمريكي! مثلاً! لكن، هل يحمل المثقف بندقية ليقتل؟ ربما بلى، وربما لا ! ترى ما الذي سنحمله إذا اتسعت رقعة الحرب، وأقتحمت غزة وصارت بأيديهم؟ أترانا آمنين على أوطاننا وأطفالنا ونسائنا وثقافتنا؟
   أمرٌ مفارق حقّاً، ذلك هو إفراغ مفردات نبيلة مثل الثورة والثائرين من محتواها العام، بعد عقود من ترسيخها في ضمير الإنسانية، بمقولة الدم والحق والحرية، ضد البطش والقهر والاستبداد. بيقيننا فإنَّ الاجساد التي رفعت رايةَ التحرر والثورة قبل تحللها أو تفسخها في الكتب وعلى ألسن البطرين والمحللين اليوم لم تكن عملاً عابراً، وهي ليست مزحة أو جملة مفرغة من النبل، وما هي من أفعال الحمقى والباحثين عن الثروة والشهرة، هي أكبر من ذلك. من هنا، سيتوجب على المثقف إعادة النظر بمفاهيم تم التسليم بها مثل التحولات الكبرى والمتغير الكوني ومعاداة السامية، ولا بد من قراءة حديثة لمفهوم التحولات تلك. هناك شرخ يتعمق في فهم وتسويق المثل والقيم الإنسانية، وهناك خداع غربي واضح، تمكن من ذاتنا سنوات طويلة، يدعوننا إلى عدم المضي والتماهي مع ماكنة الإعلام والفهم الغربيين، لتعريفات مثل القانون الدولي ولوائح الحرية والديمقراطية والإرهاب.. تلك التي سوّقت بوصفها مركزية ثقافية مطلقة، تصلح أن ينتظم تحتها الإنسان، أيِّ إنسان، وهي السبيل الوحيد والسليم لعيش مشترك آمن، هناك خداع وكذب..  
  يكتب أستاذ الفلسفة بجامعة موريتانيا (المصطفى ولد اكليب) على صفحته اعتذارا لطلابه الذين درسهم فلسفة الأنوار، وما لحقها من فلسفات غربية حديثة ومعاصرة، تمجّد مفاهيم الحق، والعقلانية، والانسانية، والقيم، والأخلاق، والتقدم، والعدالة، والانصاف، وحقوق الإنسان.. الخ ويقول:» اعتذرُ لكم، لأنني شاركت في خداعكم. الغرب أكبر أكذوبة.» مع أنها انتباهة متأخرة، لكنها تجدد بيننا فهم الثقافة ودور المثقف، والوقوف بتأنٍ أمام ماكنة الغرب (الثقافية) التي سوقت العالم لنا بوصفه امتحاناً إنسانياً، مادته المساواة والتسامح وقبول الآخر، لكنها في الحقيقة كانت بأخلاقيات مضمرة، ليس أقلها الكولونيالية الجديدة والهيمنة وفرض قيم القويّ.  
  استطاع اليهود وعبر مقولة القتل بأفران الغاز النازية بناءَ دولة جيئ بحجارتها من طين التسامح الكاذب ذاك، لكنها وبعد ثلاثة أرباع القرن حولت الطين هذا إلى رصاص وحديد صُلب قتلت به ومازالت تقتل سكان فلسطين الأصليين. هل كانت فكرة التسامح معهم سبباً بجعلهم شهداء العالم، بتعبير هيدجر؟ وها قد أصبحت أوربا ومعها الملايين من بني البشر رهينة التسامح المزعوم ذاك، حتى بات تشريع معاداة السامية عنواناً صريحاً للصمت، ولجم الأصوات، التي تندد بما تقوم به اسرائيل اليوم، ورافعةً عظيمة لجعلها قوة قاهرة، مدعومة من أمريكا وأوروبا. الآن يدفع العربُ ثمن تسامح العالم الغربي مع يهود (الأفران) فيما تجني هي ثمار التسامح ذاك عنتاً وتصلباً وتوسعاً. في ظلَّ ما يعاني منه الفلسطينيون سيكون التسامح واللاتسامح كلاهما رافضين لفكرة المساواة، إذْ كيف يمكنُ للعالم الظهورُ بمظهر المتسامح حيال جماعة ما، تتمتع بحقوق وممسؤوليات مساوية لحقوقك ومسؤولياتك؟ هذا إن لم تكن جائرةً على حقوقك ومسؤولياتك أنت أيها العربي.
 قد يكون مظفر النواب آخر المثقفين الثوريين وربما سيكون معه محمود درويش ومثقفون آخرون، وبغض النظر عن قواعد الايدلولوجيا وخارج فكرة الملاحم نجد أنَّ الثقافة العربية بحاجة إلى أيقونة رمزية، ذلك لأنَّ (الثورة) وبكل موجباتها ومعانيها ما تزال قائمة، وهي ضرورة تاريخية. ينظم المكتب القومي للسياحة في بوليفيا اليوم زيارات إلى الموقع الذي القي القبض فيه على تشي غيفارا، والى المستشفى الذي عرض فيه جثمانه أيضاً، يقول البرتو منغويل:» وجه غيفارا الحيّْ بالبيرية، ذات النجوم، أو الميت بالعينين الجامدتين، كما لو كان يحدِّق في نقطة تقع وراء اكتافنا  يجسد رؤيا واسعة الافاق» لقد احتلَّ الوجهُ الميتُ مكانَه في الوجه الحيّْ.