ستراتيجيَّة حماس.. الجذور والنتائج
دانيال سوبلمان
ترجمة: أنيس الصفار
إن يكن من الواضح أن الحرب في قطاع غزة قد تمثل تهديداً وجودياً لتنظيم حماس، وربما للقضية الفلسطينيَّة بمداها الأوسع، فإن هذا الصراع وعزم إسرائيل المعلن على محو حركة حماس عن وجه الأرض حتى لو كان معنى هذا خوض حرب تدوم أشهراً، ستكون له تداعياته العميقة في المدى البعيد على كل طرف من الأطراف الفاعلة التي سيكون لها نصيب في توازنات القوى والنظام الإقليمي في الشرق الأوسط ما بعد الحرب.
هدف إسرائيل وهويتها، كدولة قابلة للحياة وحامية للشعب اليهودي، مهددان اليوم ايضاً، كما أن المصالح الحيوية للمحور الإيراني برمته في الشرق الأوسط، الذي يطلق على نفسه وصف “محور المقاومة” والذي أمست حماس عضواً رئيسياً فيه خلال السنوات الأخيرة، معلقة هي الأخرى بكفة الميزان.
محور المقاومة
يتألف “محور المقاومة”، الذي تشكل إيران رأس حربته ومزوّده الاساسي بالمعدات العسكرية والمعرفة الفنية والتكنولوجيا، بصورة أساسية من حزب الله اللبناني وقطاع غزة وسوريا وحركة انصار الله الحوثية في اليمن بالاضافة إلى جماعات عديدة في الجوار. كل هؤلاء مجتمعين اكتسبوا وزناً حساساً ومهماً كمجتمع ستراتيجي يجمع بين التنسيق والتزامن. خلال السنوات الأخيرة أصبحت هذه الأطراف تكتلاً إقليمياً يفكر بصيغ جيوسياسية ويتشاطر التطلعات لتحقيق نظام اقليمي مناهض للغرب فيما تسميه إيران “غرب آسيا”.
إلى جانب رسالتهم المتمثلة بدحر إسرائيل والقوى الغربية واخراجهم جميعاً من الشرق الأوسط تتشاطر أطراف “محور المقاومة” مفهوماً ستراتيجياً متقارباً. فمن حيث الجوهر يقر المنطق الذي تقوم عليه ستراتيجية “المقاومة” بأن الأطراف في الجبهة المقابلة، صاحبة القدرات المتفوقة مثل إسرائيل والولايات المتحدة والسعودية، تستطيع دائماً ان تصيب المدنيين في دولهم بالبلاء والآلام الهائلة، ولكن أطراف محور المقاومة، رغم إقرارها بما تعانيه من ضعف في الجانب المدني، تحتفظ بأجهزتها ووسائلها العسكرية وانظمة القيادة والتحكم عندها واستمرار قدرتها على رد الضربة بوسائل تقليدية في مستودعات آمنة وسليمة. هذا هو بالضبط المنطق الكامن وراء اعتماد هذا المحور على مخزونات ضخمة من أسلحة المواجهة، مثل الصواريخ والقذائف الموجهة دقيقة التسديد والطائرات المسيرة الهجومية بعيدة المدى وصواريخ بر- بحر.
هذه القدرات العسكرية في قطاع غزة ولبنان واليمن والعراق وإيران محفوظة بأمان داخل انفاق ومنشآت تحت الأرض- وهي ما تطلق عليه طهران وصف “مدن الصواريخ”. وفي كل منطقة من مناطق الصراع طوعت أطراف “المقاومة” قدرتها على نحو يمكنها من إجبار خصومها المتفوقين تسليحياً على الرضوخ لما يسمونه “قواعد اللعبة” و”معادلات الردع” و”قواعد الاشتباك”. الأمر المهم هنا هو ان هذه كلها، رغم أن منبعها في الأصل هو الصناعات العسكرية الإيرانية المتقدمة، لا ينبع معجم مصطلحاتها الستراتيجية والفكرية الخاصة بـ “المقاومة” من إيران بل من حزب الله اللبناني. وعندما يتعلق الأمر بـ”المقاومة”، باعتبارها ستراتيجية متماسكة غير متناظرة، فإن “المختبر” الاساسي الذي ينتجها في الواقع هو الصراع الناشب بين إسرائيل وحزب الله.
المنطق الستراتيجي
في مناسبات عديدة على مر السنوات أوضح الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، الذي بقي لوقت طويل عنصراً أساسياً وجزءاً لا يتجزأ من منظومة صناعة القرار الإيرانية، المنطق الستراتيجي الذي تعتمده المقاومة. فالصواريخ والقذائف، كما يوضح نصر الله نفسه، هي وسائل المقاومة التي يلجأ اليها الجانب الأضعف لمعادلة التفوق الجوي لدى الجانب الأقوى. بناء على ذلك سوف يبقى وابل صواريخ الطرف الأضعف يفرض تأثيره على مدن الطرف الأقوى ما دام هجوم هذا الأخير عليه مستمراً. يخلص نصر الله من ذلك إلى أنّ الطرف الأقوى سيرغم في النهاية على إطلاق عملية غزو برية تضع الخصمين على قدم المساواة فوق أرض مستوية. فالغزو العسكري إذن، وفق هذا المنظور، يكون الحصيلة المرجوة المنتظرة.
هذه الستراتيجية بالذات، التي كان ينظر اليها عن جدارة بأنها تمكنت من الثبات أمام الجبروت العسكري الإسرائيلي في مواجهات عديدة في لبنان طيلة اعوام التسعينيات وفي حرب الأيام الأربعة والثلاثين اللبنانية في تموز من العام 2006، خاضعة للامتحان حالياً. فمن خلال تلك المواجهات جميعاً عجزت إسرائيل عن توجيه ضربة عسكرية قاصمة أو إصابة نقاط ضعف حساسة، وما فشلت في تحقيقه عسكرياً عجزت عن تحقيقه دبلوماسياً ايضاً. ما يعنيه هذا هو أن إسرائيل، بعد انجلاء الموقف ورغم كل تفوقها العسكري الهائل، قد ردعت. ونتيجة لذلك ارغمت على الإذعان لبعض “قواعد اللعبة” والتغاضي بالفعل عن استمرار أعمال العنف وعن بناء حزب الله المتسارع لقواه العسكرية.
في وقت لاحق نشط حزب الله بفعالية في تصدير هذا النموذج إلى قطاع غزة حيث استمدت حماس من خبرته وتبنت نفس مفرداته. بذا تكون الظاهرة ذاتها قد طبقت على المجابهات الإسرائيلية مع قطاع غزة منذ سيطرة حماس عليه في حزيران 2007. والآن تحاول حماس فرض الردع على إسرائيل واخضاعها لما يطلق عليه “معادلات ردع” تتلقى الهجمات الإسرائيلية بموجبها، عندما تتخطى عتبة معينة، ردوداً انتقامية بنيران صاروخية كثيفة على العاصمة التجارية لإسرائيل؛ تل ابيب. صرح المتحدث باسم كتائب عز الدين القسام؛ الجناح العسكري لحركة حماس، بعد وصفه مفهوم غزو الجيش الإسرائيلي لقطاع غزة بأنه مضحك، قائلاً إن تسعة أعشار جيش القسام تنتظر المواجهة بنفاد صبر مع أي جيش غاز، على حد تعبيره.
تطور قدرات محور المقاومة
خلال السنوات التي تلت حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله طور الحزب نفسه حتى اصبح التهديد العسكري الرئيسي لإسرائيل. منذ تلك الحرب، التي وصفها حزب الله بأنها “نصر إلهي”، أمدته إيران بكثير من القدرات المتقدمة؛ التي صار يمتلكها الآن بشكل جعله يضيّق على الطيران الإسرائيلي طيلة السنوات الأخيرة حرية العمل في اجواء لبنان. فقد باتت قدرات حزب الله العسكرية الحالية، ومعها قدرات إيران ايضاً، أكثر تقدماً مما كانت بكثير. ففي العام 2021 أقر “كنيث مكنزي”، الذي كان حينها قائداً للقيادة الوسطى الأميركية، بأن قدرة إيران الستراتيجية أصبحت هائلة، على حد تعبيره، ثم أضاف: “لقد أمتلكوا التفوق في مسرح العمليات والقدرة على تحقيق الغلبة.” أما خلَفه “مايكل كوريلا” فقد صرح خلال هذا العام بأن الحرس الثوري الإيراني اليوم لم يعد بالأمكان التعرف عليه لدى مقارنته بما كان قبل خمس سنوات لا غير.
لا ريب أنّ حركة حماس قد استمدت القوة والإلهام من تعاونها مع إيران وحزب الله، ذلك التعاون الذي تنامى بشكل كبير منذ العام 2021، إلى جانب شعورها بأن “محور المقاومة” بأكمله يقف وراءها حامياً ومسانداً. وقد أكد الناطق العسكري باسم حماس أن مستوى التنسيق بين حماس ومن وصفهم بالاشقاء في محور المقاومة قد تصاعد وتطور على صعيد حشد الجهود فيما يتعلق بمستقبل الصراع، على حد تعبيره. لا يوجد أكثر صدقا؛ كشاهد على هذا القول؛ من مقابلة أجراها مؤخراَ “صالح العاروري”، وهو الرجل الثاني في سلم قيادة حركة حماس، والذي صرح في أواخر شهر آب الماضي بأن الحرب الإقليمية الحاسمة متعددة الجبهات مع إسرائيل ليست مرحب بها فقط، بل هي ضرورية في الواقع على المدى القريب، كما قال.
تحدث العاروري من مقره في بيروت محذراً بأن أمام الفلسطينيين ما بين عامين وثلاثة أعوام قبل أن تستكمل الحكومة اليمينية في إسرائيل رفع عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية إلى مليوني مستوطن. لذا فإن هناك مصلحة اقليمية حالياً لنشوب حرب في المنطقة، كما قال. وأضاف بأن ثمة اطراف تعمل بمنتهى النشاط والدأب وتتداول لتحقيق هذا الأمر.” يخلص العاروري إلى أنّ الحرب، اذا ما اندلعت فإن إسرائيل ستمنى بهزيمة غير مسبوقة في تاريخها. وقال: “نحن موقنون من هذا. وإسرائيل سترضخ لحقائق جديدة تتعلق بمكانتها والكيفية التي ينظر بها العالم إليها وإيمانها بنفسها.. ومعها ايضاً من علّقوا الآمال في المنطقة على أن تكون إسرائيل ضامنهم وحاميهم.. هذا كله سوف يتغير.”
بعد مرور اسبوع واحد على حملة حماس الأخيرة التي شنتها على إسرائيل ترنُّ نبوءة العاروري بمصداقية لم يكن أحد ليقر له بها قبل 7 تشرين الأول 2023. ومن أجل تكذيبه سوف تتورط إسرائيل بأفعال وسلوكيات من المرجح أن تفضي بها إلى التصادم مع اشد مصالح اعدائها حيوية، وبذلك ستتصاعد احتمالات انفتاح رقعة الحرب الحالية إلى ابعاد أوسع بكثير.
إسرائيل تقف منذ الآن على شفير حرب اقليمية، وأياً يكن الاتجاه الذي ستتطور فيه الأمور فإن التداعيات الإقليمية سيكون لها أثر تشكيلي. فما يحدث الآن من شأنه أن يغير، وبأكثر من طريقة، لا الشرق الأوسط وحده كما تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتانياهو”، بل إسرائيل نفسها.
عن مجلة {ذي ناشنال إنتريست}