الفن المعاصر بين السياسي والإعلامي
عزالدين بوركة
لا شيء ينفك من أنياب الفن المعاصر الحادة، إذ تسخر المنجزات المعاصرة من هذا البراديغم نفسه، بقدر ما تتهكم بالسوق الفنيّة والسياسة والأعراف المجتمعيّة والدينيّة والثقافيّة وغيرها، لكنّه "تهكم جاد" يتأسس على النقد البناء، أو بمعنى آخر "هدم عبر السخرية من أجل البناء باللعب"، مثلما يفعل الأطفال بألعابهم القابلة لإعادة التركيب.
لقد سعى الفنان المعاصر -خاصة- إلى الانزياح بعيداً عن أي التزام سياسي، وهذا أمر لا يختلف فيه ناقدان، هذا الانزياح لم يبتغِ الهروب من الأطاريح السياسيّة المتعلقة بالإنسان وحياته اليوميّة، لما لهذا الفن، منذ البوب آت ليومنا هذا، علاقة وطيدة تجعل الفنان ينطلق من اليومي والمهمّش والهامشي والعابر لبناء أعماله الفنيّة. والأمر راجع لتعلقه بـ "فلسفات" ما بعد الحداثة التي أزالت عنها غبار سرديات الحداثة الكبرى، بعودتها إلى اليومي بعيداً عن أية عباءات ثقيلة تثقلها. فاليومي زائل وعابر وهش وشفاف، إنّه إنساني مفرط في إنسانيته بالمعنى النيتشاوي. من هذا اليومي المتعلق -بالضرورة- بالتغيرات السياسية والاجتماعية والقضايا الأخلاقية والدينية والاستهلاكية والإعلامية، ينطلق الفنان المعاصر في تشييده لمنحوتاته وإنشاءاته الفنيّة أو تركيب ملصقاته الرقميّة أو أعماله السيريغرافية وعروضه الأدائيّة...
ويتضح عربياً الأنموذج مع مجموعة من الأعمال الفنيّة للعديد من الفنانين، أمثال المغربي منير فاطمي، الذي ينتقد عبر أعماله مصائر الصراعات الإيديولوجية المبنية على أسس عقائديّة هدامة، لا تسعى إلى أيِّ بناء تعددي وسلمي، أو عبر الانخراط في الواقع السياسي الحاصل، مثل عمله الفني الذي أنشأه على أثر أحداث ما سمي بـالربيع العربي، حيث استبدل عصي مجموعة من الأعلام العربيّة بمكانس، في دلالة متعلقة بتشطيب هذه الدول على ماضيها -الاستبدادي- القديم..
وقد صار الفنان المعاصر أكثر التزاما بالقضايا السياسيّة بالمقارنة مع الماضي، بطرق لا ترتهن إلى أي أدلجة منغلقة وأي استلاب. لأنه لم يعد مجبراً على نقل الطبيعة وتصويرها، بل غدا معتمداً على التصويريّة الحكائيّة أو التشخيصيّة أو التعبيريّة أو العفويّة أو الفوتوغرافيّة التشكيليّة وغيرها، وعبر أسلوب شبه تجريدي ومفاهيمي وحر وغيره... غايةً لطرح قضاياه اليوميّة عبر قالب تشكيلي بصري، لا يبتغي المباشرة قدر الدهشة والتأويل. لهذا نجد فنانين غربيين معاصرين جعلوا من القضايا السياسيّة أرضاً يستندون إليها في أطاريحهم التشكيلية. من هنا نستحضر لوحة بيكاسو الشهيرة غيرنيكا (1937) Guernica، وYue Minjun الفنان الصيني (1962 فنان معاصر) الذي يعتمد في أعماله على أطاريح سياسية في الغالب، عبر أسلوب التهكم والسخرية عبر رسومات شبه تجريديّة وتشخيصيّة. وفنان الشارع بانكسي Banksy (فنان مستتر) الذي اشتغل حول إشكاليات سياسيّة أهمها حرب نيبال وقنابل أمريكا الحارقة، فضلا عن قضايا اجتماعية متعلقة بالجنس (مثل الخيانة الزوجيّة). ولويس كوميز Luis Gomez الذي يتهكم في السياسات الأمريكية عبر مونتاجاته montages الفنيّة التي تجمع بين الماركات الاستهلاكية والرموز الدينيّة والسياسيّة. وباتريك ماكغرات Patrick McGrath الذي يعالج أعماله بفنيّة عالية تجمع بين الأيقنوغرافية في بعدها الميثولوجي والتعابير الاستهلاكية المعاصرة عبر الماركات العالميّة التي تستحوذ على السياسات العالميّة. وأشهرهم إسحاق كرودال Isaac Cordal الذي تناولت أعماله مجموعة من القضايا السياسيّة المتعلقة بالاقتصاد أو العدالة أو السياسيين أنفسهم بشكل فيه من التهكم ما فيه والترميز والفنيّة العالية، عبر منحوتات سواء بارزة أو نحت ناتئ relief أو نحت مجسم ronde bosse، إذ سيعمد إلى إنشاء إحدى أهم أعماله والمتعلقة بأمر الانتخابات والساسة المعروض بمدينة برلين سنة 2011، التي تعرض أشخاصاً (ساسة!) غرقى (لا تتبدى سوى رؤوسهم)؛ لعلها إشارة لغرقهم في أكاذيبهم.
وعودة إلى عالمنا العربي نقف عند أعمال الفنانة الفلسطينية-اللبنانية مونى حاطوم التي تحوّل كل الأغراض إلى أعمال فنيّة، متحدية كل السلطات الرمزيّة والماديّة، غايتها القصوى منح الأشياء روحا فنيّة تمرر عبرها رسائل مشفرة وقابلة للتأويل، بفعل ما تحمله من دلالات مفتوحة على كل الاحتمالات.
أسُّ اشتغالها الفني يرتكز أوليّاً على اللعب والمخاطرة، وعلى البناء والنسج: "حياكة الأشياء" (بكل ما تحمله الكلمة من علاقة ضمنيّة بالحكي والنسج).. وثانياً على الالتزام بالقضايا المجتمعيّة.. مثلما نلمس ذلك في عمليها "كوفيَّة" (1993 - 1999)، الذي نسجته بشعر إنساني على توب قطني.. تطرّز حاطوم، إذن، أعمالها برسائل سياسيّة واجتماعيّة إنسانيّة، تنطلق من جسدها والجسد الإنساني (الكوني) وموطنها الأصلي: فلسطين؛ لتلامس البُعد العالمي.. وهو ما يرتبط مع إحدى أعمالها التي وضعت في صلبها سجادة حمراء منسوجةٌ من خيوط كهربائيّة شبيهة بأشكال نباتيّة، منتهية بمصابيح منيرة.. فتتحول السجادة، التي تتعلّق بمفهوم التوطين والاستكانة وتدل على الملجأ والمأوى والوطن، إلى أرض ملغومة ومكهربة.. لا يمكن الوقوف عليها والبقاء حدها، فهي "أرض خطر".
دارت مناقشات عديدة عبر التاريخ حول العلاقة بين الفن والسلطة والإعلام. تمركزت جلّها حول نقط معينة يمكن تلخيصها في نقط محوريّة، تتعلق باستخدام الفن بعدّه وسيلة لتعزيز سلطة حكومة أو منظمة. على سبيل المثال، يمكن للأنظمة الاستبداديّة استخدام الفن لنقل أيديولوجياتها وتعزيز قوتها من خلال التحكم في ما يتم إنتاجه ونشره. وبالمقابل، يمكن أن تلعب وسائل الإعلام دوراً مهماً في كيفية إدراك الجمهور للفن وتقديره. وبمقدور الفن عبر وسائل الإعلام أن يؤثر على الجمهور لصالح خطابات الديمقراطية والسلام وغيرها. إذ يُستخدم الفن كوسيلة لانتقاد أو استنكار السلطة والظلم الاجتماعي. حيث استعان العديد من الفنانين بأعمالهم للتعبير عن معارضتهم للأنظمة الاستبداديّة أو للتنديد بعدم المساواة والتمييز.
وتجدر الإشارة هنا، أنّ الصراع الغربي الشرقي قد استعان بالفن لتمرير خطابات الطرفين المتصارعين، كل عبر طرق بصريّة خاصة إذ دعم الشرق في مرحلة معينة التصوير الواقعي إيماناً بما يمكنه القيام به من تحريك للعواطف الجماهريَّة، بينما سعى الجانب الغربي إلى الحد من انتشار الخطاب البصري الشرقي المدعوم بالواقعيّة، فعمد إلى الترويج لتيارات "طلائعيّة" (التجريديّة، السرياليّة...) من شأنها أن تزيح الجماهير عن أي تعاطف محتمل، وتبعدهم عن "الواقعيّة"، حتى لا نقول الواقع، وخاصة بعد الخروج من الحرب العالمية الثانية والدخول في حرب باردة استمرت لعقود.
ومن المهم التأكيد على أنّ الفن والإعلام لا يرتبطان بالضرورة ارتبطا سلبياً بالسلطة. إذ يمكن استخدامها أيضاً لتعزيز المثل الإيجابيّة ودعم القضايا الجديرة بالاهتمام. حيث يجعلنا الفن نفكر في هذه القضايا، لا بِعَدِّهِ مرآةً لها، بل بوصفهِ مؤولاً لها ومعلياً منها، مخرجاً إيّاها من السياقات الضيقة والمحليّة إلى الإنسانيّة الكونيّة.. بفعل قوته على ملامسة الأحاسيس ومخاطبة العواطف.
ويتضح لنا الأمر جليّاً، في علاقة الفن (في عالمنا العربي خاصة) بالقضية الأم، الفلسطينية، والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، الذي لا يفتأ يعود إلى الطفو إعلاميّاً من فترة إلى أخرى، من دون أن يمحى من الذاكرة والذهنيّة العربيّة. وقد عمل الفنان الإنجليزي المستتر بانكسي (اسم مستعار) على إثارة هذه القضية في العديد من أعماله الجداريَّة، خاصة تلك التي وضعها على جدار الفصل المزعوم. معتمدة على لغة بصريّة استعاريَّة وتعابير سيميائيَّة مفتوحة الدلالة.. حيث يقذف أحدهم -في إحدى تصاويره- باقة زهور بدلا عن الحجارة، في استعارة بلاغية مفارقة يتحول فيها "المقاوم" إلى "باعث للورود"، في مواجهة قذائف الدبابات. بينما تخترق إحدى شخصياته الجدار العازل، خيالياً، بفتح "ستائره" على عالم مشرق مطل على ضفاف الشاطئ المشمسة سماؤه. في دلالة على الانعتاق من التمييز والفصل والحروب والدمار. وفي عمل آخر من باب الدلالة نفسها، يتضح لنا طفل وهو يعبر الجدار ببراءة متجاوزا كل القيود، وبالمقابل نقف عند عمل آخر حيث يتبادل الجندي والفتاة الصغيرة الأدوار، يضع العسكري سلاحه "مستسلما" للطفلة التي تفتشه.. كأن المستقبل المحتوم (الطفل) لا يمكن إلا أن يصير إلى إلغاء كل هذه الحواجز والفواصل وتهديم الأسوار والجدران.