قراءة في أطروحات استشراقيَّة متزنة

ثقافة 2023/10/29
...

 كامل داود 

       شكل البعد الزماني بين احداث القرن الأول الهجري و بين وقت تدوين تلك الاحداث، حرجا كبيرا للمؤرخين، فقد امتد الفارق الزمني إلى أكثر من قرن للكثير من تلك الاحداث، الامر الذي وضع تلك المدونات في دائرة التشكيك، أن بعد الشقة الزمنية  بين الحدث و تدوينه، وعدم وجود رقابة حقيقية على رواة الأخبار، والتناقض  في الروايات، ولقد اهتم الغربيون بهذه الإشكالية منذ القرن التاسع عشر، وقاد ذلك الكثير من المستشرقين لرفض الروايات الشفهية، منهم: ليوني كاتاني، هنري لامانس، شاخت، بلاشير، بل وصل إلى حد استبعادها من دائرة  البحث العلمي، كم هو دأب مدرسة ساربروكن الألمانية للدراسات الإسلامي، وما اطلق عليهم (المنقحون) الذين ينظرون إلى تلك المدونات بعين الشك والريبة، على أنها لا تتوافق مع المسار الحقيقي للتاريخ.

لكن المستشرق السويسري المعاصر (كريكور شولر، 1944) تعامل مع هذه الإشكالية، بأدوات معرفية أخرى، فقد استنطق تلك المدونات بطريقة استقرائية، بكتابه الموسوم (الكتابة والشفوية في بداية الإسلام، ترجمة رشيد بازي، المركز الثقافي للكتاب، ط1، الدار البيضاء، 2016) وتمكن من الوصول في كتابه هذا، إلى الخيوط الأولى لقنوات النقل المعرفي وارهاصات التدوين المبكرة، والكتاب هو مجموعة محاضرات القاها المؤلف في جامعة فرنسية سنة 2000، كرسها لدراسة نشأة الادب العربي والعلاقة بين النقل الشفهي والكتابة خلال القرون الأولى للإسلام. اعتمد المؤلف مصطلحين يونانيين، سينغراما، هيبومنيما، للتفريق بين المدونات التي كتبت لأغراض الدروس التعليمية وبين تلك التي كانت تستهدف التأليف والوصول إلى

القراء.


تدوين القرآن جاء بناء على وجود مسوغاته 

عرفت الكتابة في الجاهلية وبدايات الإسلام، و دُوّنت العقود والمعاهدات والرسائل، منها صحيفة المدينة، وثيقة صلح الحديبية، كتابة الاحلاف، صحيفة مقاطعة بني هاشم، وقد حُفظ عدد منها في داخل الكعبة، اذ كان خزن الوثائق في دور العبادة آنذاك شائعا في الشرق والغرب، أما تدوين القرآن، فإن المؤلف يرجع تدوينه إلى عهد الرسالة، ويرى أيضا، أن القرآن هو أول كتاب ظهر في الإسلام بعد تطور متسلسل استغرقت كتابته زهاء عشرين عاما بعد وفاة النبي محمد، و كانت بداياته بقصار السور ثم السور الطويلة، جاءت الحاجة الأولى في كتابته لمساعدة المسلمين على استرجاع الحفظ، مما هيأ وجود بعض السور المدونة عند عدد من الصحابة والتي اعتمدت في جمع القرآن فيما بعد، اما اسمه فهنالك فرضيتان، الأولى ترجعه إلى العربية وجذر الفعل “قرأ”، اما الفرضية الثانية فتأخذ به إلى أصل يعود إلى كتاب الفصول المسيحي “قريانا”، وفي الحالتين فأن مرجعية القرآن تحولت من الشفهية إلى كتاب مكتوب، عكس الشعر الذي بقي شفهيا، وعلى الرغم من تدوين القرآن، فقد ظهر اختلاف في قراءات النصوص المكتوبة، مردها يعود إلى الابهام في الحرف الحجازي وخلو الكتابة من التنقيط والتشكيل، وكان هذا الاختلاف في القراءة،  يحل ببساطة في حياة الرسول، ولكنه أصبح اكثر تعقيدا بعد وفاته لانقطاع الوحي، ونجد أن هذه الاختلافات طبيعية في الشعر، لكنها في القرآن تمس الوحي المقدس، وقد تعاظم خطرها خاصة عندما تصاعد الجدل والاختلاف بين الجند في مناطق التحشد العسكري أبان الفتوحات و الحروب الأهليّة.


تدوين الحديث

منحت موافقة الرسول على عملية تدوين القرآن، شرعية لجمعه وإخراجه في مصاحف وُزّعت على الامصار كما تنقل ذلك كتب التواريخ، ولكن العلاقة بين الشفهية والكتابة كانت أكثر تعقيدا عند جمع الحديث، لوجود إحساس بعدم مشروعية هذا العمل، ونهي الصحابة عن ذلك لكي لا يختلط الأمر على المسلمين.

ولم يمنع ذلك أن تبرز إلى السطح، بدايات تدوين العلوم الدينية في الإسلام، شملت السيرة والحديث والتفسير، وظهرت في المدينة المنورة نواة لنشاطات شكلت بدايات التعليم الاكاديمي في الإسلام، اذ أنشغل عدد من أبناء الصحابة الذين ابتعدوا عن الاهتمام السياسي، ولزموا المسجد النبوي بحلقات دراسية شبه منتظمة، وعكفوا على تدوين سردية اطلقوا عليها مصطلح “الحديث”، وتوصلوا إلى اكتشاف مفهوم “الاسناد”  واصبح التصور شائعا في عدم اثبات صحة الرواية حتى اعتماد الاسناد، والذي يرجعه المؤلف إلى أصل يهودي، أخذه مدونوا الحديث الأوائل، وبه ردمت هوة التدوين التي فرضها خلو الساحة من المصادر المكتوبة، ومنح الاسناد، الروايات الشفهية رصانة و ثقة تقترب كثيرا من الاطمئنان المعرفي، وكانت البداية على يد عروة بن الزبير بن العوام، وهو ابن صحابي معروف و تربطه صلة رحم مع البيت النبوي، لكن تلك البدايات على أهميتها، لم تشكل سوى  ارهاصات أولية لعملية التدوين، ولم تصل إلى مستوى التأليف المتكامل، فقد ظلت تجرى عن طريق المذاكرة بهيئة مسودات أو دفاتر لتلقين التلاميذ أو لأغراض شخصية، والقليل منها مدونات بشكل رسمي للحكام.


تدوين الأدب العربيّ

(ويل للشعر من راوية السوء)

تمحورت الكتابة العربية الأولى على القرآن والحديث والسيرة و لغة الوحي، واستحوذ  نقل المعرفة عن طريق التواصل الشفهي، تعود سبل النقل الشفهي للشعر إلى أصول جاهلية، و كان العرب يستعملون الكتابة بشكل محدود و غير منتظم، فيما ظل الالقاء الشفهي يؤدي وظيفتين، النشر و الرواية، و كان من المألوف أن يتدخل الرواة في تعديل القصيدة والتدخل بالنص الأصلي لتحسين الجودة الفنية، يقول خلف الأحمر: (كان الرواة قديما تصلح من اشعار القدماء) وروي عن الشاعر ابن مقبل ت35ه، ( أني لأرسل البيوت عوجا، فتأتي الرواة بها بعد اقامتها) وهنا يصح قولهم (الراوي شاعر ثاني).

نجد أن عددا من الرواة زاولوا الكتابة، ولكن هدفهم كان شخصيا وليس لأغراض التأليف، فقد كان حماد الراوية معتادا على الشفهية في رواياته، ولكنه كان يدوّن ما يحصل عليه في كتب يحتفظ بها للمراجعة والاستذكار، ويبدو أن خصلة الاعتماد على الصحف المكتوبة في رواية الشعر نهج غير محبب، وربما يؤاخذ عليها الراوية، يقول أبو نؤاس مادحا استاذه خلف الأحمر:   

ولا يعمي معنى الكلام ولا    يكون أنشاده عن الصحف

وكذلك قول ثعلب عن استاذه (لزمته بضع عشرة سنة ما رأيت بيده كتابا قط) فقد أتى قوله هذا، على وفق نظرة التبجيل للحفظ والشفهيَّة مقابل الكتابة و التدوين.


الصراع القيمي بين الكتابة والشفهيَّة 

استغرق تحقيق سيادة الكتابة على الرواية الشفهيّة حقبة زمنية امتدت لأكثر من قرن، و تمظهر الصراع بينهما بمحورين، الأول اعتراضات على ترك الرواية والسماع بحجة أن المصحفين الذين يعتمدون الدفاتر والكتب يرتكبون أخطاء فادحة، لأنهم لا يعتمدون سماع الرواية مباشرة من الراوي، وان النص المكتوب لا يغني عن التعليم شيئا، والمحور الثاني هو ندرة و غلاء مواد الكتابة كالأحبار والجلود وغيرها، ويمكن أن يبين ذلك تطور الكتابة والتأليف بعد أن استعمل الورق الكاغد سنة 134ه، عندما نقل صناعته اسرى صينيون إلى سمرقند ومن ثم شاعت صناعته إبان حكم العباسيين.

سبقت ذلك مرحلة لجوء الملقنين إلى نص مكتوب لغرض استرجاع حفظ الروايات الشفهية، ثم ظهرت كتابات  في الفترة الاموية لتلبية طلب الحكام والإجابة على اسئلتهم في الفقه والحديث والتفسير، وفي الحقبة ذاتها، ظهرت وظيفة رسمية بعنوان ديوان الرسائل، برز فيها عبد الحميد الكاتب مؤسس النثر الفني، وكان يكتب لمروان بن الحكم، وشاعت كتابة رسائل المساجلات بين الفرق الدينية، لكن المحدثين لزموا اعتماد الذاكرة، رافق ذلك شيوع بوادر للتدوين بشكل متواضع، فقد سمح للتلاميذ بكتابة ما سمعوه من الدروس،  وعرفت  طريقة  “المناولة” أي أن يمنح التلميذ نسخة مصححة من تأليف الشيخ يرخصه بروايتها، وكذلك عرفت الجذاذات المنظمة والمنسقة وأن كانت بشكل محدود، لكنها احتلت أهمية بالغة في ظهور المصنفات الكبيرة. تلقفت الامصار الإسلامية ما وصلت اليه مدرسة الحجاز من مراحل أولية للكتابة، في البصرة ثبتت العلوم النحوية و اللسانية الشكل المعقول من المنقول في الروايات الشفهية، وازدهرت كتابات العلوم اللغوية في الكوفة، فنتج عن ذلك النشاط ظهور “الكتاب” لسيبويه (ت 180 ه) وهو أول كتاب تم تأليفه من اجل القراءة بالمفهوم الحقيقي، فكان بحق فتحاً لطريق التحول من “سينغراما” إلى “هيبومنيما” أي من المدونات شخصية الاستعمال إلى كتب مؤلفة لأغراض النشر كما هي معروفة

اليوم. 

وما أن حلّت بدايات القرن الثالث الهجري، حتى أنتشرت الكتب لأجل القراءة بشكل مضطرد، كتب تحمل عنوان واسم مؤلف وتاريخ تأليف، رافقها وجود جمهور من القراء، وهي كتب لا يحتاج فهمها إلى حضور صاحبها، ولم يكن تدوينها للاستعانة على الحفظ أو التلقين، بل كان المستهدف فيها هو جمهور القراء.إن كتاب غريغور شولر يحمل أهمية كبيرة في المضمار الاستشراقي، تكمن هذه الأهمية في في طرحه منهجا مختلفا، يعتمد فيه طريقا متفردا لاستخلاص المعلومة التاريخية الحقيقية، عن طريق تداخل المناهج الغربية مع المرويات الإسلامية، بعيدا عن المبالغة في الريبة و التطرف بالتشكيك الذين أنتهجهما المستشرقون من قبله لا سيما مدرسة

المنقحين.